أم تترك نصف قلبها خلفها

إيمان.. من رماد الحرب إلى قاعات الطب في القاهرة

ترنيم خاطر – في إحدى زوايا المستشفى، حيث يكتنف الجدران البيضاء صمتًا مؤلمًا، تجلس إيمان برهوم (17 عامًا) على الأرض، بعدما حوّلت سريرًا طبيًا إلى مكتبٍ للدراسة، وضعت عليه كتبها وأوراقها، لتصنع من الفوضى مكانًا مهيئًا لحلمها الذي فارقته في قطاع غزة!

إيمان هي طالبة فلسطينية بالقسم العلمي، كانت تعيش مع أسرتها بمنزلهم شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة، لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت يوم 7أكتوبر/تشرين الأول 2023م، دفعتها للنزوح، والتواجد مع والدتِها في مستشفى بالعاصمةِ المصريةِ القاهرة، مع إخوتها الأربعة الذين اتخذوا من الأرض والكراسي البلاستيكية أماكن لنومهم.

تسترجع إيمان تفاصيل حياتها قبل الحرب، في منزلها الواقع على محور فيلادلفيا (شريط حدودي ضيق يقع بين قطاع غزة ومصر)، تقول: “كنت في الصف الثاني الثانوي، مضى شهرٌ واحدٌ على الدراسة، اجتهدت وثابرت، كنت حريصةً على تنظيمِ يومي منذ بداية العام، لأحصل على معدلٍ مرتفع، لأُفرِح أهلي بتفوقي كما كل عام”.

إيمان: كل اللي بفكر فيه كيف أكون بأمان، وما أخسر حد من عيلتي

لم تتخيل إيمان أن تنقلب حياتها كليًا، فمنذ صغرها وهي تعمل بجدٍ رغبةً في التفوّق، تعقب: “الحرب بدّلت حلمي لواقع كل اللي بفكر فيه كيف أكون بأمان، وما أخسر حد من عيلتي”، وبدلًا من التحضير للاختبارات، أصبحت مهمتها إعداد الطعام على الحطب، ومساعدة إخوتها في تعبئة المياه، وأداء المهام الشاقّة التي فرضتها الحرب.

تفيض عينا إيمان بالدموع وهي تقول: “كان منزلنا جميلًا وكبيرًا، أنشأ أبي غرفةً مستقلةً لي ولإخوتي الستة، مجهّزة بكل سبل الراحة وما يلزم الدراسة، حرص والدي ووالدتي على أن يكون لنا بيئة تعليمية مناسبة بالمنزل الذي دمّره الاحتلال، وأجبر عائلتي على النزوح المستمر بحثًا عن الأمان”.

تشرح: “مع اشتداد القصف في منطقتنا؛ نزحنا إلى منزل أحد الأقارب، ولم نأخذ من منزلنا سوى حقائب صغيرة تحتوي الأوراق الرسمية، والقليل من الملابس، عدنا للبيت بعدما سمعنا أنه لن يتم قصف المنطقة، لكن الوضع كان صعبًا، أصوات قذائف وانفجارات لا تتوقف، حتى قُصف مسجد قرب منزلنا، نجونا بأعجوبة وقررنا المغادرة للمرة الثانية”.

إيمان: ما كانش سهل أبدًا إنا نسيب بيتنا

تتوقف للحظة، ثم تأخذ نفسًا عميقًا وتواصل: “ما كانش سهل أبدًا إنا نسيب بيتنا اللي اتولدنا وكبرنا فيه، وكل زاوية فيه فيها ذكرى معانا، لكن البحث عن الأمان خلانا ننتقل إلى منزل أحد أقاربنا غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، كان المنزل مليان بالنازحين من مختلف المحافظات، والحياة قاسية وصعبة لأبعد الحدود”.

تجفف إيمان دموعها، لكن صوتها ما يزال مرتجفًا وهي تكمل: “هذه الظروف جعلت الخصوصية حلمًا، لم يكن لدي مكان مخصص للنوم، أنام مع والدي ووالدتي وإخوتي في غرفة واحدة متلاصقين على الأرض، بين جموعِ الناس، اضطررنا لاستخدام الحطب والنار للطهي، وجباتنا كانت بسيطة عبارة عن معلبات لعدم توفر الغاز، حاولنا الحفاظ على الكمية التي استطعنا إعدادها، ومنح كل واحد حصة يومية من الطعام، فالمتوفر بالكاد يكفينا”.

وتستدرك إن الاحتلال دمّر منزلهم تمامًا بتاريخ 20 ديسمبر/كانون الأول 2023م، وكل شيء تغيّر، فالسعادة تحطمت مع زجاج البيت، والشعور بفقدان الأمان أشدّ قسوة من القصف، لم يكن الأمر مجرد قصف بيت؛ بل فقدان الاستقرار، تكمل: “أتذكر تلك اللحظات وكأنها حلم لم أستطع الاستيقاظ منه”.

بينما تجاهد إيمان لمواصلة الحديث، تقاطعها والدتها أم مجاهد: “الأيام الصعبة ستمضي، ما عشناه بالحرب كان قاسيًا، لم أتخيّل أن أعيش لأشهر بلا كهرباء، مع منع الاحتلال دخول الوقود إلى قطاع غزة وتوقف محطة الكهرباء عن العمل، كنا نعيش في غرفةٍ مظلمة، إلا من ضوء خافت لكشاف أحد الهواتف النقالة الذي سرعان ما ينطفئ، وهو ما كان يزيد خوفنا، كانت ساعات الليل موحشة، شعرت أنني منفصلة عن العالم الخارجي، لعدم توفر تلفزيون ولا انترنت”.

أم مجاهد: كنت خايفة وضليت أحاول أركب الكارّة ومش عارفة

تضحك وهي تروي تجربتها الأولى حين ركبت عربة كارو (عربة تجرها الدواب)، فقد كان وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة، إثر توقّف السيارات بسبب منع الاحتلال إدخال الوقود إلى قطاع غزة، تقول: “كنت خايفة وضليت أحاول أركب الكارّة ومش عارفة، التقطت صورة (سيلفي) لتوثيق التجربة، لكن سرعان ما شعرت بالخوف من الاستهداف الإسرائيلي الذي يضرب كل شيء”.

لكن ما زاد قلق الأم، هو تدهور حالتها الصحية بعد توقّفها عن المتابعة والمراجعة الطبية في مستشفى الصداقة التركي، الوحيد الخاص بأمراض السرطان في قطاع غزة، حيث اكتشفت عام 2019م، إصابتها بسرطان الدم، وخضعت لبروتوكولاتٍ علاجيةٍ مكثفة؛ خارج وداخل قطاع غزة.

تتابع: “في الحرب، نصحني الطبيب بضرورة أن أقدم تحويلة للعلاج بالخارج، تم تقديم الطلب بتاريخ 30 يناير/كانون الثاني 2024م، وحصلت عليها بتاريخ 16 مارس/آذار 2024م، وحين قررت أخذ أبنائي الستة معي، سُمح لي بأربعة فقط (إيمان، محمد، يوسف، وريما)، وبقي (مجاهد، وسليمان) مع والدهم في القطاع”.

أم مجاهد: من لحظة ما ودعتهم ودموعي ما وقفت

لم يكن قرار السفر سهلًا على الأم في ظل تواصل الحرب، لكن زوجها شجعها لمواصلة العلاج، تعقّب: “من لحظة ما ودعتهم ودموعي ما وقفت لغاية ما وصلت مصر، لكن ما كان بإيدي غير إني أسلمهم لربنا وأمشي.”

خلال وجودها بمصر، أعلنت السفارة الفلسطينية فتح باب التسجيل للدراسة الالكترونية لطلبة قطاع غزة النازحين في الخارج، شعرت الأم بالراحة نسبيًا، لكن الظروف لم تكن سهلة، ثلاثة من أبنائها فقط تمكّنوا من التسجيل، وواجه محمد مشكلة لم يتم حلّها، إضافة إلى عدم توفّر أجهزة حاسوب، وإقامتهم في مستشفى، تتداخل مواعيد الكثير من الحصص بين الأشقّاء، كما أن الانترنت غير متوفر، فتشتري بطاقات لا تسمح بتحميل الملفات والصور، عدا تكلفتها المرتفعة.

تلتقط إيمان طرف الحديث من والدتها وتكمل مستذكرة أيامها السابقة وغرفتها ومعلماتها اللواتي لم يبخلن يومًا بالمعلومة، مع اجتهادها ومثابرتها.

تقول: “حاليًا أحاول التغلب على ضعف الانترنت، وصعوبة الحصول على المواد الدراسية بالمتابعة مع المدرسين عبر حصص (الأون لاين)، ومراجعة الدروس على اليوتيوب وتنظيم الوقت، صحيح لا يوجد مدارس ولا معلمين أستشيرهم، لكن أدرك أن الطريق لحلمي إني أدرس طب صعب بعرف وطويل، بس أبدا مش مسكر، وحنكمل في النضال لحد ما أوصل للنهاية”.

تستمر إيمان في عدم الاستسلام للواقع، تقول: “أستخدم كل الإمكانيات المتوفرة، أطلب المساعدة من الممرضين والأصدقاء للحصول على ما أحتاجه من ملازِم، أرتب يومي، أنام وأستيقظ مبكرًا، رغم صعوبة ذلك مع تواجد إخوتي بنفس الغرفة، منهم من يرغب بالحديث، ومنهم من يريد اللعب، ومن يريد إشعال الكهرباء، أتحدى كل هذه الظروف”.

وتنص اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب في مادتها (50) على أن تكفل دولة الاحتلال، بالاستعانة بالسلطات الوطنية والمحلية، حسن تشغيل المنشآت المخصصة لرعاية الأطفال وتعليمهم، إلا أن طلبة قطاع غزة حُرموا هذا الحق، ومنهم مجاهد شقيق إيمان الذي يفترض أن يلتحق بامتحانات الثانوية العامة، لكنه حُرم إلى جانب 39 ألف طالبة وطالبًا.

إيمان: أنا صوت لكل طالب فلسطيني لحتى يضل الأمل فينا

تُدرك إيمان حجم الفجوة التي يعيشها الطلاب في قطاع غزة، حيث يفقد الكثيرون فرصة التعلم بسبب انقطاع الكهرباء، الإنترنت، والموارد التعليمية، وتدمير المدارس والجامعات، واستهداف الكوادر التعليمية، وسوء الأوضاع الاقتصادية، عدا عن عدم استقرار الأوضاع وغياب الأمان.

تشعر بالحزن، لكنها تعود وتُشعر نفسها بالقوة، مدفوعة بأمل أن الفرج قريب، مُحفزةً شقيقها مجاهد على ضرورة الدراسة والاجتهاد خلال العام الجديد ليتخطى مرحلة الثانوية العامة رغم كل الصعوبات، وتذكّره أن المستقبل لا يزال مفتوحًا أمامهما، مهما كانت التحديات.

تضيف بفخر:” أحاول الاطمئنان على والدي وأخي مجاهد وسليمان، هم الآن في خيمة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، والاتصال عبر الانترنت صعب، نقضي الوقت ليلًا ونهارًا على قنوات الأخبار والواتساب نتابع ما يجري، ونعلم أولًا بأول أماكن القصف، أحرص في كل محادثة معهم ومع صديقاتي في غزة، أن أُشجعهم على الصمود والحرص على التعليم فهو سلاحنا الأقوى في مواجهة التحديات”.

تختم إيمان: “أنا صوت كل طالب فلسطيني لحتى يضل الأمل فينا طول العمر”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى