تعذيب وإذلال واعتقال “بالخطأ”.. هذه قصة عبير

تعذيب وإذلال واعتقال “بالخطأ”.. هذه قصة عبير

جباليا- بسمة أبو ناصر:

لم تكن ضربات قلب الأربعينية عبير غبن تتوقف عن التزايد خوفًا، فمنذ اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023م، كانت تمسك صغارها الثلاثة بقوة، لم تخشَ من القصف وحده، بل من فقدانهم في فوضى الحرب، لكن ما تخشاه سيحدث، ليس تحت الركام، بل خلف القضبان!

حين أجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه، ظلّت عبير في بيتها بمدينة جباليا شمال قطاع غزة، وذات يوم مشتعل، كانت في مستشفى كمال عدوان برفقة طفلها الذي يعاني أزمة صدرية، ويحتاج رعاية طبية، ومع تصاعد القصف واقتراب الخطر، قررت النزوح.

“كان ذلك بداية ديسمبر 2023م، حملت طفلي وركضت نحو مدرسة الفاخورة في جباليا، احتشد آلاف النازحين محاولين النجاةَ بأي وسيلة، لكن المكان تحوّل إلى هدفٍ للصواريخ، ولم يعد هناك ملاذٌ آمن”، تقول عبير التي تقيم حاليًا في بيت شقيقتها في جباليا.

“سقطت القذيفة قربنا، شعرت أنني متّ للحظة، استيقظت على صوت الصراخ، أفرادٌ من عائلتي استشهدوا ولم أستطع توديعهم”، تحكي وعيناها غارقتان في الحزن، ومع انعدام الأمان، اضطرت يوم 2 ديسمبر 2023م، للنزوح إلى جنوب قطاع غزة.

جمعت عبير أطفالها الثلاثة، وما تبقّى من أمل، وسارت عبر ما زعم الاحتلال إنه “الممر الآمن”، للنزوحِ إلى جنوب قطاع غزة، لكن عند أحد حواجز التفتيش تغيّر كل شيء!

“اتركي أطفالك واتبعي التعليمات”، بلهجةٍ صارمة، صرخ الجندي، حاوَلت عبير فهم ما يجري، لكن لا وقت للأسئلة، أَمسكوا بها بينما تركت أطفالها يواصلون السير وحدهم، نظرت إليهم للمرة الأخيرة، محاوِلة حفظ ملامحهم، خشيةَ ألا تراهم أبدًا.

اقتيدت عبير إلى نقطة تفتيش، كان بانتظارها مجموعة من الجنود والمجندات، “اخلعي حجابك وملابسك بالكامل”، أمرتها إحداهن، ترددت لوجود جنود، لكنها كانت أمام تهديدٍ مباشر: “إما أن تفعلي أو نطلق عليك النار فورًا”، لم يكن أمامَها خيار، “شعرت أن كرامتي تُسحق تحت أقدامهم”، تقول عبير.

تكمل: “بعد التفتيش خضعت لتحقيقٍ قاسٍ استمر لساعاتٍ عندَ الحاجز، وبعده إلى سجن عنتوت بالداخل المحتل”، الأسئلة كانت تتوالى بلا نهاية: “من أنتِ؟ أين كنتِ؟ ماذا تعرفين؟”، وعندما لا تُرضِ إجاباتها المحقق، يبدأ التعذيب: صفعٌ على الوجه، شدّ للشعر، وركلات جعلتها ترتجف من الألم، والصدمات الكهربائية التي جعلت صراخَها يشقُ المكان دون أن يسمعها أحد.

بعد أيامٍ صعبة من الاستجواب، سألت بصوتٍ منهك “ما تهمتي؟ لماذا أنا هنا؟ ابتسم المحقق بسخرية وأجاب ببرود: “أنتِ زوجة إرهابي”، حاولت الدفاع عن نفسها، وذكرت اسم زوجها ورقم هويته ومكان سكنهم، لكن المحقق لم يبدِ أي اهتمام، وبعد نصف ساعة، عاد ليقول: ” اعتقلناك بالخطأ، لكن لا يمكن الإفراج عنك، الاعتراف بأن الجيش أخطأ مستحيل”.

نُقلت عبير إلى سجن الدامون، التقت هناك بأربعة عشر أسيرةً من غزة، كلهن حملن ذات الوجع، في الزنزانة كانت الحياة شبه معدومة، الجدران ضيقة، الهواء ثقيل، البطانيات لا تكفي لمواجهة برد ديسمبر، الطعام بالكاد يسدّ الرمق، والماء شحيح وأحيانًا ملوث.

تعرضت عبير للإذلال خلال فترة اعتقالها، خاصة حين جاءت دورتها الشهرية، تقول: “لم يوفروا الفوط الصحية، ولا وسائل نظافة، فقط ألم فوق الألم، شعرت أنني في مكان خارج حدود الإنسانية”.

ويعد ما تعرضت له عبير انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تضمن الحماية للمدنيين، وخالف الاحتلال الإسرائيلي المادة (27) التي تضمن المعاملة الإنسانية، والمادة (76) التي تفرض فصل النساء عن الرجال، أي احترم خصوصيتهن، وهو ما لم يحدث مع عبير.

بعد (53) يومًا من التعذيب، جاء الخلاص، اقتيدت عبير خارج الزنزانة دون تفسير، وضعوها في مركبة عسكرية مع أسيرات أخريات، ظنّت أنها ستُنقل إلى سجنٍ آخر، أو أن سيناريو التعذيب سيُعاد، لتجد نفسها بين الأسرى المحررين، “للحظة لم أصدّق، هل هذا حقيقي؟”، تتساءل عبير، وكأن الحرية باتت مستبعدة تمامًا.

لكن الفرحة لم تكتمل، فقلبُ عبير كان مثقلًا بالقلق على أطفالها، هل ما زالوا على قيد الحياة؟ من اعتني بهم في غيابها؟ تختنق الكلمات على شفاه عبير وهي تروي كيف بحثت عنهم طويلًا، حتى عثرت عليهم لدى عائلة فلسطينية تكفّلت برعايتهم بعدما تُركوا وحدهم على الحاجز، احتضنتهم بقوة، لكن شيئًا داخلها انكسر.

خرجت عبير وهي تحمل رسائل الأسيرات لأهاليهن، تتضمن أسماءهن وأماكن اعتقالهن، بمرور الوقت حاولت عبير لملمة ما تبقّى من روحِها، لكن جسدها لم يعد كما كان، روحها مثقلة بجراح غير مرئية.

“أحتاج إلى عملياتٍ جراحية لعلاج آثار التعذيب”، تقول عبير التي تشتكي من آلامٍ في جسدها، كما لم تستطع العودة كما قبل الاعتقال، فهي تحاول استعادة توازنها النفسي من خلال جلسات الدعم النفسي، تختم: “أحاول أن أفهم كيف أعود للحياة بعد كل هذا الفقد والتعذيب”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى