استشهدت شقيقتها تحت ركام منزلهم الحرب تسرق الأمل من قلب (إيمان) …”مستقبلي ملوش ملامح”
استشهدت شقيقتها تحت ركام منزلهم
الحرب تسرق الأمل من قلب (إيمان) …”مستقبلي ملوش ملامح”
هبة أبو عقلين
“السبت، 13 يناير/كانون الثاني 2024م، الساعة 10:30 تمامًا، شعرتُ بشيءٍ ثقيلٍ فوق جسدي، لم أستطع التحرّك، بصعوبة تحرّكت شيئًا فشيئًا، بدأت أحرّك رأسي وأتجه نحو شيء يجعلني أتنفس، وجدتُ الجيران حولي، يحاولون إخراجي من المكان خوفًا من استهدافٍ جديد، أدركتُ حينها أنه تم استهداف منزلنا، ورغم أنه صاروخٌ لم ينفجر، لكنه أسقط شهيدين أحدهم تسنيم أختي (21 عامًا)، وآخر من بيتٍ مجاور، بعد إخراجي بثواني تم استهداف بيتنا بصاروخين وتسويته بالأرض”.
بهذه الكلمات استهلّت إيمان أبو السبح (18 عامًا)، حديثها عن اليوم الذي قصفت فيه طائرات الاحتلال الإسرائيلي الحربية بيتهم في منطقة البصة بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وانتشالها من تحت الأنقاض بجروحٍ بالغة.
وكانت إسرائيل أعلنت الحرب على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، واستهدفت منذ ذلك الحين آلاف المنازل السكنية بالقصف وأسقطتها فوق رؤوس ساكنيها، في مخالفةٍ لبنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، التي تحظر استهداف المدنيين وممتلكاتهم، بينما قتلت الغارات الإسرائيلية حتى الآن نحو 39 ألف مواطنة ومواطنًا بينهم نحو 10 آلاف طفل و9 آلاف امرأة.
عن ذلك اليوم تروي والدة إيمان المكنّاة أم أنس (55 عامًا، أمٌ لتسع أبناء 6 فتيات و3 ذكور): “بعد يومٍ شاق، انتهيت فيه من الطبخ على النار، جلست ليلًا لأستريح، تركت أبنائي يتمازحون سويًا، بعدها غفت عيني وأفقت على شيء فوق رأسي، صوت يصرخ – “يدي”، والآخر يصرخ – “وجهي”، وثالث –”اختنقت”، طلعوني من بين الركام وأنا بصرخ “اولادي”، سألت عن كل أولادي وقلت وين تسنيم، إلا صوت عالي مثل الزلزال بيصرخ تسنيم ما بتتحرك يما”.
لم تتمالك أم إيمان نفسها، حين رأت الأرضَ غارقةً بدماءِ أبنائِها، لم تملك سوى احتضانهم والبكاء على حالهم، أما إيمان التي عادت لإكمال المشهد الذي ترويه والدتها: “كلنا كنا ننزف، أختي تسنيم كانت في أواخر أنفاسها، تأخّر الإسعاف بسبب عطل في شبكة الاتصال”.
بصعوبة وصلت العائلة إلى مستشفى شهداء الأقصى شرق مدينة دير البلح، ولسوءِ الحظ كان ذلك في وقتٍ تلقّى فيه المستشفى أوامر إخلاء بسبب اقتراب آليات الاحتلال من المكان، الوضع مأساوي في ظل شبه انهيار للمنظومة الصحية في قطاع غزة، فقبل استهداف منزل إيمان بيومين فقط كان هناك قصفٌ طال مستشفى شهداء الأقصى وأسفر عن عددٍ من الشهداء والجرحى.
يُذكر أن مستشفى شهداء الأقصى هو أهم مستشفى متبقٍ في المنطقة الوسطى بقطاع غزة، وهو الذي يقدم خدماته المنقذة للحياة لمئات آلاف المواطنين/ات والنازحين/ات.
ويتنافى استهداف المستشفيات مع القانون الدولي الإنساني، الذي ينص على أن عملية عسكرية حول المستشفيات ينبغي أن تتخذ الخطوات لحماية المرضى والعاملين والمدنيين داخلها.
كما يتنافى استهداف القطاع الصحي مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (18) التي تحظر الهجوم على المستشفيات، كما تفرض الاتفاقية ذاتها توفير الرعاية الطبية للمرضى وخاصة النساء والأطفال وكبار السن.
عودة إلى إيمان التي تجلس مع عائلتها في غرفة داخل أحد مراكز الإيواء بمدينة دير البلح، وتسرح كثيرًا وهي تنظر إلى يدها المصابة، ثم سرعان ما تقلّب هاتفها النقّال وهي تنظر إلى صور شقيقتها تسنيم، وتتنهد بعمق.
تكمل: “جميع أقسام المستشفى مكتظة والوضع كارثي، والطواقم الطبية خائفة من اقتحام دبابات الاحتلال للمستشفى، وخروجه عن الخدمة، كما حدث مع مستشفى الشفاء وغيرها من مستشفيات القطاع، كانت يدي تنزف ووجهي ملطّخ بالدماء، ونحن ننتظر دورنا في قسم الطوارئ، أمي حضنتني وهي بتنزف وقالت للدكتور المهم اولادي وبعدين انا”.
بسرعة، بدأ الطبيب بتغريز وجه أخي صالح (7 سنوات)، ومن ثم رأس أمي، لكني كنت بحاجة إلى طبيب متخصص لأني كنت مصابة بنزيف في ملتحمة العين وتهشّم في عظام الكوع، وخلل في العصب السابع في يدي، دخلوني غرفة العمليات وبسبب انعدام المستلزمات الطبية الخاصة بالتعقيم والوضع الطارئ دخلت غرفة العمليات واواعيا كلهم ردم، وزاد وضعي سوء وصابني التهاب في العظم، وأصبحت بحاجة لعملية معقدة خارج قطاع غزة”.
تكمل والدة إيمان: “كان الجو باردًا، ولم نملك من الملابس سوى التي خرجنا بها وهي مليئة بالغبار والأتربة بسبب الركام، ليس لدينا مكان ننام فيه، رحت بنص الليل أدوّر على حرام أغطي فيه اولادي، وجدت عند أحد البيوت المجاورة للمستشفى غطاءً افترشت به الأرض ونام زوجي وأولادي والدموع تملأ عيونهم، انتقلنا بعدها إلى أحد مراكز الإيواء شرق مدينة دير البلح.”
إلى جوار إيمان كانت تقف شقيقتها فاطمة (32 عامًا) والتي تعمل ممرضة في أحد النقاط الطبية بمدينة دير البلح، تطمئن على يد شقيقتها مثلما تفعل بشكل دائم.
نزحت فاطمة مع أطفالها من مدينة غزة إلى دير البلح، منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حين علمت باستهداف منزل أسرتها تركت صغارها وحدهم وانطلقت مسرعة تسابق الرح صوب المستشفى، وأصيبت بانهيار عصبي حين علمت باستشهاد شقيقتها تسنيم.
تشير فاطمة إلى يد إيمان وهي تقول: “المنظر الجمالي ليدها يدمّر نفسيتها وفي كل مرة تراها، تدعو الله أن تشفى سريعًا”.
تضيف والدة إيمان: “تسنيم وإيمان بناتي أذكى اثنتين، تسنيم أنهت ثلاث سنوات في كلية الطب بالجامعة الإسلامية، تسنيم كانت تحلم تصير طبيبة وتساعد الناس، الكل كان يناديها دكتورة، راحت تسنيم وراح حلمها معها”.
كانت إيمان الأكثر تعلّقًا بتسنيم كما تقول أمها، كانتا دومًا معًا، يتمازحن ويتسامرن، يذهبن معًا إلى كل مكان، إيمان تنظر بشكل دائم إلى صورة تسنيم، والحزن لا يفارقها.
بعد رحيل تسنيم، بدأت إيمان ترى الحياة بعينٍ مختلفة، كل الأمور بنظرها تافهة لا تستحق الاهتمام، تمرُّ كثيرًا بلحظات ضعف واستسلام، لكنها سريعًا ما تستعيد قوتها، تستذكر كيف كانت تسنيم مثال لصاحبة العزيمة والارادة والذكاء الخارق في كل شيء، وتأمل أن تستعيد قوة يدها وتعالج وتصبح أفضل، فهي تحلم بأن تصبح مهندسة صاحبة منصب ومكانة في هذه الحياة.
لقد سرقت حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م أحلام إيمان، إذ كانت طالبة متفوقة في الثانوية العامة، حصلت على معدل 88% الفرع العلمي، تحلم بأن تلتحق بالجامعة، وتطمح إلى أن تكون مهندسة الكترونية.
تتابع والدتها: “كانت إيمان تستعد قبل الحرب للالتحاق بكلية الهندسة بعد انتهائها من الثانوية العامة، شاركت العائلة بحماسة في تفاصيل أحلامها، لكم الحرب لا ترحم وسرقت من إيمان حلمها وفرحتها، فإصابتها بيدها جعلها لا تستطيع تحريكها، وآلامها مستمرة”.
وكما توضح والدتها، فقد شرح لهم الطبيب إن عظم الكوع هو المفصل الوحيد الذي يأخذ وضعية معينة ولن تستطيع تحريك يدها كما السابق، وهذا يؤثر على التحاقها بتخصص الهندسة الالكترونية، فهي بحاجة إلى السفر لمركزٍ متقدم خارج قطاع غزة لتلقي العلاج، لكن إغلاق معبر رفح بسبب اجتياح الاحتلال لمدينة رفح جنوب قطاع غزة في 8 مايو/أيار 2024م، حال دون خروج إيمان كما غيرها آلاف ممن يحتاجون العلاج بالخارج.
ويتنافى ما حدث مع إيمان وعائلتها مع بنود اتفاقية جنيف الرابعة، خاصة المادة (3) التي تحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية للأشخاص المحميين وخاصة القتل بجميع أشكاله، كما يتناقض مع القرار (1325) حول المرأة والسلام والأمن، والذي يطلب في البند (9) الأطراف في الصراع المسلح احترام القانون الدولي الخاص بالنساء والفتيات، ويدعو في البند (10) هذه الأطراف إلى اتخاذ تدابير خاصة تحمي النساء والفتيات من العنف القائم على أساس الجنس.
تواصل إيمان المذاكرة والحفظ رغم عدم تمكّنها من الالتحاق بامتحانات الثانوية العامة بسبب الحرب، وتحفظ سورًا من القرآن الكريم، وتحبُ أن يناديها الجميع المهندسة إيمان رغم كل ما حلّ بها كما تروي أمها.
بابتسامة حزينة جاهدت لرسمها على وجهها تكمل إيمان دفة الحديث: “الخوف بلاحقني وما بحس بالأمان لأن حرب الإبادة لسة شغالة، لم أشعر بأي فرحة منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023م، أحلامي تدمرت ومستقبلي (ملوش معالم)، مرضت أكثر من مرة بسبب نقص التغذية اللازمة لتقوية العظام والمناعة، أبكي كثيرًا لأن البرد كان يزيد آلام يدي، والآن الحرارة كاللهيب يشتعل بها، أفلت البلاتين من يدي بسبب تآكل العظام التي أصبحت تتهشم وتزداد سوءًا، نحن بانتظار فتح المعبر لتقديم التحويلة والسفر للعلاج بالخارج”.