أوجاع ألفت تخطّت حتى بتر ساقها
غزة- أنسام القطّاع:
“فجأة سمعت صوت انفجارٍ قوي، حزام ناري ضرب المربع السكني لعائلتنا وانهار بيتنا، وصرت أنا وعائلتي تحت الأنقاض”.
بهذه الكلمات، بدأت الشابة ألفت جمعة (31 عامًا)، تروي حكايتها وهي تجلس في ركنٍ خيمةٍ صغيرة، تتحسس قدمها المبتورة، وتبكي على ألم فقدان أمها الذي يفوق آلام البتر، “لو كانت أمي معي لخففت عني”، تقول.
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يوم 7 أكتوبر 2023م، كانت ألفت تعيش مع عائلتها في بيتهم المكوّن من أربعة طوابق بحي الصفطاوي شمال غرب مدينة غزة؛ حياة بسيطة مليئة بالحب، لكن المشهد تبدّل تمامًا خلال الحرب التي رفضت خلالها عائلة ألفت النزوح إلى جنوب قطاع غزة، حين أجبر جيش الاحتلال سكّان شمال القطاع على ذلك.
بحزنٍ تروي ألفت: “مساء 29 أكتوبر 2023م، كنت أجلس بجانب أمي في صالون بيتنا نتلو القرآن، وفي لحظةٍ تصاعدت الغارات، حزام ناري ضرب المربع، وأصبحنا تحت ركام بيتنا، (حسيت إخوتي رح يستشهدوا بس توقعت إمي تضل معي).
انهارت البنايات المجاورة، وتحوّلت المنطقة إلى ركام وجثث تحت الأنقاض، وبعد ثلاث ساعات، تمكن الجيران من انتشال ألفت التي تعرضت لإصابة خطيرة، وتم نقلها إلى المستشفى.
تشهق وهي تكمل: “أول شي سألت عنه (وين أمي؟)، كانت بجانبي تقرأ القرآن، (حكولي إخوتك استشهدوا بس أمك بخير، وبعدين اكتشفت أن أمي استشهدت، ومعها أختي دلال وزوجها وأطفالها، وإخوتي محمد (19 عامًا) وأحمد (18 عامًا)”.
تبكي وهي تكمل: “لم أعرف أن رجلي بُترت، ولم يخبروني الحقيقة، فقط قالوا إن أمي بخير لكنها مصابة، (لما صحصحت عرفت إن أمي استشهدت)، شعرت بصدمة وألم لا يمكن وصفه، وحين عرفت أن رجلي مبتورة قلت الحمد لله، يا رب عوضني وصبرني على الحمل الثقيل القادم”.
خسرت ألفت ساقها اليمنى، وأصيب الثانية بشظايا وجروح عميقة وصلت إلى الفخذ، نُقلت بعد انتشالها إلى المستشفى الأندونيسي شمال القطاع، وهناك أجريت لها عملية بترٍ عاجلة، لكن الحصار الذي فرضه جيش الاحتلال الإسرائيلي على المستشفى بعد أيام، حرمها من المتابعة الطبية الأساسية، بما في ذلك تغيير الضمادات وإجراء العمليات اللازمة، وبعد أربعة أيام نُقلت عبر الصليب الأحمر إلى المستشفى الأوروبي في خانيونس جنوب قطاع غزة.
في المستشفى الأوروبي، ظلّت ألفت سبعة شهور تتلقى علاجًا متقطّعًا، لكنها لم تحصل على العملية الثانية، كانت بحاجة لإصلاح التشوهات والجروح العميقة في قدمها الثانية، وقبل أن تكمل علاجها، حاصر جيش الاحتلال المستشفى، واضطرت للنزوح إلى منطقة المواصي غرب محافظة خانيونس في مايو 2024م، حيث أقامت في خيمةٍ على شاطئ البحر في ظروفٍ قاسية.
تعقّب: “هواء البحر يؤلم مفاصلي، ورماله متعبة جدًا خاصة وانا استخدم العكاكيز”.
سرعان ما نزحت ألفت إلى منزل عمّها في دير البلح وسط القطاع، وظلّت هناك حتى العودة إلى مدينة غزة في فبراير 2025م، مع إعلان وقف إطلاق النار المؤقت، لتعيش في خيمةٍ بمخيم للنازحين في شارع النصر غرب مدينة غزة، حيث بالكاد تتحرك باستخدام العكاكيز.
تقول: “حياتي وقفت… قبل الحرب كنت أطلع وأمشي لأي مكان بسهولة، اليوم كل خطوة بحسبها ألف مرة. الشوارع مكسرة، الركام بسكّر الطرق، والمواصلات مش متوفرة”.
معاناة ألفت اليومية مضاعفة، لا سرير تنام عليه، بل تفترش الأرض، وكلما حاولت النهوض اجتاح جسدها ألم أشبه بمسّ الكهرباء، المراحيض غير مهيّأة، ما يجبرها على الاعتماد على زوجة شقيقها، كما توقفت جلسات العلاج الطبيعي وفشلت محاولاتها في تركيب طرفٍ صناعي، بعدما أكد الأطباء أن عملية البتر لم تتم بشكلٍ صحيح، وأن العظم نما بطريقةٍ خاطئة ويحتاج لتدخل جراحي جديد خارج قطاع غزة.
تشير إلى خيمتها وهي تعقّب: “الخيمة مكان غير مناسب للعيش الآدمي، النوم على الأرض بيخليني أصحى موجوعة و مكهربة، والحمام غير مهيّأ، و لازم أستنى زوجة أخي توصلني”.
لم تتوقف معاناة ألفت عند فقدان السكن والعلاج، بل تضاعفت لتصل إلى مستلزمات النظافة الأساسية، وغلاء المتوفر منها بما يعجزها عن توفيرها.
تشرح: “غياب مواد التنظيف سبب لي أمراض جلدية، (جسمي كله بيحكّني وبتجرّح من أقل شي)، وهذا زاد أوجاعي فوق البتر والجروح (نفسي يوفروا مواد تنظيف)”.
منذ عدّة شهور تتابع ألفت ملفات التحويلات الطبية، على أمل أن يأتي دورها الموجود في قوائم الانتظار، تعقّب بحسرة: “كل مرة يعلنوا عن سفر جرحى جديد، أصاب بنوبة بكاء. بتدمر نفسيتي. أنا بحاجة لعلاج عاجل”.
ويخالف ما تعرضت له ألفت اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (3) على حظر استهداف المدنيين بالقتل أو التعذيب أو التشويه، كما نصت المادة (23) على ضرورة تسهيل مرور الأغذية والإمدادات الطبية، وقد حظرت المادة (51) من البروتوكول الإضافي الأول الهجمات العشوائية التي تستهدف المدنيين.
تحاول ألفت التمسك بأطراف الأمل وهي تشيح بوجهها قائلة: “تقّبلت أمر بتر قدمي، لكن استشهاد أمي كسرني، كل يوم أقول ليتها معي، (لو ظلت أمي كانت ستساندني لأتخطى الصعاب)”.
تعيش ألفت اليوم على أمل أن يأتي اليوم الذي تحمل فيه أوراق التحويلة العلاجية إلى خارج قطاع غزة، لتستعيد بعضًا من حياتها التي توقفت منذ وجدت نفسها (مبتورة القدم).





