كنزي فقدت ذراعها اليمنى وتعيش بكسرين في الحوض والجمجمة
رفح، محمود جودة
21 أكتوبر، هذا التاريخ تغيرت فيه الحياة بالنسبة للطفلة “كنزي” ذات الخمسة سنوات وللأسرة كلها وللأبد .. بدأ الأمر بنزوح العائلة من مخيم جباليا، إلى حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، حصل هذا والقصف يجري خلف النازحين كالغول، لا وقت لأخذ الأنفاس أو التفكير فيما يجري من حالة ضياع وتشرد.
الكل في حالة لا يمكن وصفها أبدًا، الذهول هو سيد الموقف، عشرات العائلات تهيم على وجهها في شوارع مدمرة لا يمكن أن تمشي فيها دون أن تسقط قدمك عدة مرات، استمر مسيرنا القلق حتى وصلنا حي الشيخ رضوان، يقول آدم والد الطفلة كنزي وبقينا لعدة أيام نحاول فيها التأقلم مع الوضع الجديد حيث لا كهرباء لا مكان آمن للنوم، والطعام أخذ في النقصان بشكل كبير، حتى صدرت أوامر أخرى من جيش الاحتلال بضرورة إخلاء الحي الذي نزحنا إليه، وهنا كانت الطامة الكبرى، إلي أين سنمضي بأمتعتنا القليلة والأطفال الصغار في ظل عدم وجود وسائل نقل تمكننا من الذهاب إلى المحافظة الوسطى في دير البلح أو النصيرات المناطق التي قال عنها الاحتلال إنها آمنة وارتكب فيها المجزرة.
لقد وقعنا في فخ كبير، ولا وقت يسمح بفضاء الحوارات والانتظار، فقررنا النزوح إلى مدينة دير البلح مشيًا على الأقدام، ثلاثة ساعات ونحن نجر أقدامنا ونحمل على أذرعنا أطفالنا الصغار وخوفنا عليهم من غدر الطريق والطيران، استمر المشي حتى وصلنا إلى مدرسة لإيواء النازحين في مدينة دير البلح، بقينا في هذه المدرسة أيام قليلة، ثم بحثنا عن منزل يمكن أن يكون مأوى أكثر آدمية مما نحن فيه خاصة للحياة اليومية للنساء وبالفعل عثرنا على منزل انتقلت إليه زوجتي وأهلها وأنا فضلت أن أبقى في المدرسة القريبة من المنزل وأتردد عليهم كل وقت.
كان المساء قد بدأ، وليته لم يكن، فقد تلقيت اتصالًا هاتفيًا يُخبرني أن ّالمنزل المجاور للبيت الذي تأوي إليه عائلة زوجتي قد قُصف، لم أنتظر لأن أستمع أكثر للمكالمة الهاتفية فخرجت كالمجنون أجري ناحية عائلتي والبيت المقصوف، كانت الكارثة قد وقعت، أطنانًا من الركام تحيط بي من كل اتجاه، العديد من المنازل قد تضررت وعشرات الجرحى يُنشلون من تحت الأنقاض بأدوات بدائية وبلا أي معدات للدفاع المدني، أحد الضحايا كان “حماي” والد زوجتي أخرجناه جثة هامدة، وقد أصيب باقي أفراد الأسرة بجروح مختلفة وكذلك أصيبت زوجتي يسرى بشظايا في الوجه، أما كنزي فقد أخبرونا أنها قد استشهدت، لكن قلب أمها كان يقول لها غير ذلك، وتأكد الخبر وصدق قلب الأم فقد كانت كنزي على قيد الحياة حيث تم نقلها من مكان الحدث بسرعة إلى مستشفى شهداء الأقصى لإجراء بعض العمليات العاجلة.
أصيبت كنزي إصابات بالغة، حيث كسرت جمجمتها، وساقها الأيسر وحوضها، وبتر ذراعها الأيمن كله، خمس سنوات قضتها كنزي وهي تلعب بيديها الاثنتين، الآن كنزي تقبع في مشفى في العاصمة التركية أنقرة تبحث عن ذراع لا يشبه ذراعها، لقد تنقلنا من غزة إلى مصر ثم اسطنبول ثم أنقرة، عشرات المشافي وعشرات العمليات الجراحية لنجبر كسر الجمجمة والحوض والساق اليسرى، كل هذه العمليات الجراحية تُجرى في جسد صغير لم يتجاوز الخمس سنوات بعد!
أنا وكنزي في أنقرة الآن، وزوجتي في مصر تتلقى العلاج، لقد كنا أسرة جميلة يجمعنا دفء البيت الصغير، أما الآن فقد أمسينا مشتتين، مصابين، مبتورين، نعيش في الماضي والذكريات، حتى كنزي تبحث بأعينها في أجساد القادمين للسلام عليها عن يدهم اليمنى، أرى السؤال في عينيها: لماذا هم بذراعين وأنا بذراع واحدة .. أريد ذراعي يا أبي؟! ولا جواب.
أريد أن أركب دراجتي الجديدة وألعب مع أطفال الحي هنا، كنزي تريد يدها، وعشرات الآلاف مثل كنزي بأعمار مختلفة فقدوا أطرافهم ومعها فقدو الأمل بإشراقة يوم جديد، ما ذنب هذه الطفولة أن تعيش سنواتها القادمة بنقصان في جسدها؟! لقد كانت كنزي فراشة ملونة تنبض بالحياة والأمل والتصميم، كانت ترسم وتجري وتخطط لتعلم السباحة، لقد تحول كل شيء في لحظة، هذه اللحظة التي سيتلوها عمرًا كاملاً بلا ذراع كنزي، هذا الفراغ الكبير الذي لن يملأه شيء أبدًا، هذا الألم المستمر الذي لن يكتمل فيه حضن كنزي لي ولأمها وللدنيا المُقبلة عليها.
قبل أيام كنت أبدل لكنزي ملابسها، وكما جرت العادة في السابق، طلبت من كنزي أن تعطيني يدها كي أُدخلها في كُم القميص، فتلاقت عيني بعين كنزي، وبقينا على صمتنا، هذا الصمت الذي أخشى أن يطول كثيرًا.