لا تغذية ولا مستلزمات صحية نسائية “خايفة أولد وما أكون مجهّزة ملابس للمولود”.. قالتها (دينا) وبكت
لا تغذية ولا مستلزمات صحية نسائية
“خايفة أولد وما أكون مجهّزة ملابس للمولود”.. قالتها (دينا) وبكت
خانيونس- دعاء برهوم:
تجلسُ دينا سلمان (30عامًا) أمام فرنٍ مصنوعٍ من الطين، تسعُل من شدّة الدخان المتصاعد تارةً، وتمسح العرق المتصبب على جبينها تارةً أخرى، ثم تُخرج للزبائن الخبز بيدين مرهقتين.
على بابِ خيمةٍ تقيم فيها بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تتحسس دينا حملها، بينما تُغالب دموعها وهي تحكي معاناتها مع النزوح واستشهاد طفلتها.
تقول: “أنا حامل في الشهر الثامن، لا أتحمّل الجلوس أمام الفرن لساعات طويلة، لكني مضطرة لأوفّر احتياجات أطفالي الأساسية، بعدما حُرموا من أبسط الأشياء في هذه الحرب التي حرمت الجميع وطحنتنا بكل الوسائل والطرق والاتجاهات ونغّصت علينا حياتنا”.
تسرد دينا قصة نزوحها عدّة مرات من منزلها في حي المعارفة بمدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، بعدما تعرّض الحي إلى قصف صاروخي من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وتوجهت إلى مدرسة الفاخورة التابعة للأونروا وتأوي نازحين هربوا من القصف علّها تكون آمنة، لكن لا مكان آمن في هذه الحرب التي أعلنتها إسرائيل ضد قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م وما زالت مستمرة.
تكمل دينا: “بعد شهرٍ من مكوثنا في المدرسة، بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين القاني 2023، شردنا من الموت اللي كان منتشر بكل مكان على الجنوب بعد ما اشتدّ القصف وقنابل الفسفور في كل مكان وعلى الناس بالمدرسة، وسقط عدد من الشهداء والجرحى، يومها أصبت بجراحٍ متوسطة في يدي لكن النجاة بأرواحنا كان مطلبنا الأساسي”.
(6) ساعات قضتها دينا مع زوجها فادي معروف (35 عامًا) وأطفالها أحمد (11 عامًا)، أمير (7 أعوام) وحلا (4 أعوام)، حتى وصلوا إلى مدرسة اونروا في منطقة المغازي وسط قطاع غزة، في الطرقات شاهدوا جثثًا متحللة لشهداء قتلوا على طريق النزوح، يصرخون “شوفوا يا عالم شو عملوا فينا”، والكل يهرول ولا ينظر خلفه، بقوا هناك شهرًا حتى تم الإخلاء إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
بجوار الفرن كان فادي زوج دينا يساعدها في إيقاد النار، يجمع الحطب والكراتين، من أماكن بعيدة وخطيرة ويضيف لهم بعض الخبز الجاف، لإشعال النار وتسهيل عملية الخبيز.
يقول فادي :”الحياة متعِبة والحرب زادت علينا العبء وحرمتنا لمّة العيلة”، يقول فادي، فهو وإخوته كل واحد أصبح في مكان، وهو بعيدٌ عن والده المسن الذي يتحرّك على كرسي متحرّك، وبحاجته، ولكن الوقت يمرّ ولا يعرف ما حلّ بأبيه النازح إلى منطقة المواصي برفقة زوجته، فقبل الحرب كانت الأيام مقسّمة بينه وبين إخوته لمساعدة والده، اليوم الجميع يلهث خلف متطلبات الحياة اليومية من تعبئة مياه وتوفير لقمة العيش.
دينا: قعدنا أكتر من ليلة في الشارع تحت زخّات المطر
تكمل دينا: “نزحنا إلى رفح بتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول 2023م، بأجسادٍ منهكة، قعدنا أكثر من ليلة بالشارع تحت زخّات المطر بعدها تبرّع فاعل خير بخيمةٍ من نايلون لا تقي الشتاء ولا حرارة الصيف، مكثنا فيها 6 أشهر حتى جاء قرار الاحتلال بإخلاء رفح يوم 7 مايو/أيار 2024م، توجهنا إلى مواصي خانيونس ليكون نزوحنا الرابع”.
تسقط دموع دينا وهي تكمل كيف فقدت طفلتها حلا شهيدة بتاريخ 8 مايو/ايار 2024، بعدما أصيبت بحرقٍ من الدرجة الثالثة نتيجة سقوطها في وعاء ماءٍ مغلي إثر قصفٍ صاروخي بجانبهم بتاريخ 10 إبريل/نيسان 2024م، تم تحويلها بعدها إلى مستشفى ناصر ثم إلى المستشفى الأمريكي، وبعدها ارتقت شهيدة.
مع استمرار حزنها على طفلتها وتكرار عملية النزوح، لم تنتبه دينا إلى أنها حامل إلا بعد أن تحرّك الجنين في بطنها، حينها شعرت أن هذا الحمل جاء بلسمًا يداوي جراح قلبها.
دينا: ما رحتش ولا على دكتور لأطمن على صحة الجنين وأعرف جنسه
تصف دينا حملها الرابع: “هدا أصعب حمل بيمرّ عليّا لأنه إجا في ظروف سيئة أفتقر لأبسط المستلزمات، صرت في الشهر الثامن وما رحتش ولا على دكتور لأطمّن على صحة الجنين وأعرف جنسه”.
تكمل: “مش قادرة أوفّر الفاكهة والخضراوات اللي بتساعدني على حماية جنيني، وتمده بالفيتامينات في ظل شُح الأدوية التي تأخذها كل امرأة حامل، فالقطاع الصحي متدهور بسبب الحرب المستمرة منذ 10 أشهر”، العيادات والنقاط الطبية فش فيها أي نوع من الأدوية التي تسند الأجنة والأم”.
ويخالف ما تتعرض له دينا نصّ المادة (23) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تؤكد ضرورة توفير المساعدات الضرورية للنساء الحوامل، وأن تسمح الدول بمرور أي رسالات إنسانية من أغذية وملابس ومقويات مخصصة للأطفال دون 15 عامًا والحوامل والنفاس، كما نص قرار مجلس الأمن (1325) في البند (10) على دعوة جميع أطراف النزاع لاتخاذ تدابير خاصة لحماية النساء والفتيات.
ويوجد في قطاع غزة نحو 55 ألف امرأة حامل، يضعن أطفالهن في ظروف صعبة خاصة بسبب المواد السامة التي تسقط على المدنيين في قطاع غزة وتجعلهن عرضة لمخاطر الإجهاض.
دينا: خايفة أولد وما أكون مجهزة ملابس للمولود، حتى المستلزمات الصحية النسائية مش قادرة أوفرها
بتنهيدة ودمعة تكمل دينا:” أمي وخواتي في كل حمل كانوا سندي من البداية حتى الميلاد”، في هذا الحمل أفتقد لهم كثيرًا، والمسافات أصبحت بعيدة بيننا، هم مازالوا بالشمال وأنا نازحة بالجنوب، لا أعرف أخبارهم، كسوة أطفالي ورعايتي كانت مهمتهم، اليوم أفتقد حنان أمي وحب أخواتي، في هذا الحمل أنا وحيدة وأفكر كيف سأضع طفلي في هذه الظروف”.
كان أحمد يلعب مع أقرانه أمام الخيمة، عندما سمع اسم أخته “حلا” جاء مسرعًا وعيناه ممتلئتان بالدموع، “أفتقدها كثيرًا هي أختي الوحيدة، كنت أخاف عليها كتير، والآن أفتقدها، نفسي ترجع لنلعب مع بعض وما أزعلها نهائي”.
يكمل أحمد: “قبل الحرب كنت أخبي لأختي حلا الحاجات اللي بشتريها من المدرسة، وكانت تنبسط كتير، بس الاحتلال حرمني منها”.
ظروفٌ قاسيةٌ جدًا تعيشها الأم دينا التي كانت تعمل في أخصائية علاج طبيعي قبل الحرب وتلبي كل ما يلزم أطفالها، لكن تدهور الأوضاع في القطاع جعلها تشتهي أبسط الأشياء، تقول والدموع تغرق وجهها: “خايفة أولد وما أكون مجهزة ملابس للمولود، حتى المستلزمات الصحية النسائية مش قادرة أوفرها، الوضع الذي نعيشه صعب جدًا، ولا أستطيع تحمله، الخيمة سيئة من نايلون ممزق”، بخاف على نفسي في غياب زوجي، الخصوصية معدومة، شُح المياه، انعدام النظافة، هاد مش حياتنا، احنا عايشين في ذل”.