التلوث والسكر نهشا جسدها (جروحي صارت تطلع منها روائح كريهة) … صرخة فاطمة في وجه النزوح
التلوث والسكر نهشا جسدها
(جروحي صارت تطلع منها روائح كريهة) … صرخة فاطمة في وجه النزوح
خانيونس – هبة الشريف:
داخل خيمةٍ من القماشِ المهترئ، تجلس السيدة فاطمة الرنتيسي (49 عامًا)، وهي تتحسس آلام حبوبٍ وتقرحاتٍ أصابت جلدها نتيجة التلوّث، إلا أن ما يجعل وضعها معقدًا، هو أنها أصلًا مريضة بمرض السكر!
تعيش السيدة فاطمة مع أبنائها الخمسة، (محمد، عمر، هديل، آية، ورهف)، في أحد مخيمات النزوح غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، داخل خيمةٍ مصنوعة من قطع القماش، والأغطية البالية، والتي أُعيدَ حياكتِها عدّة مراتٍ نتيجةً لطولِ تعرّضها للشمس.
في تفاصيل قصة السيدة فاطمة، فقد كانت تسكن في حي تل السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وظلّت هناك حتى أجبرهم جيش الاحتلال على إخلاء المدينة الحدودية يوم 27 مايو /أيار 2024م، فتركت بيتها وفرّت للنجاة بحياتها.
بتنهيدةٍ تقول: “بعد وفاة زوجي منذ عامين، كنت لأبنائي الأم والأب، ألبّي كافة احتياجاتهم دون الاحتياج لأحد، فزوجي موظف سابق في السلطة الفلسطينية، كنت أتقاضى معاشه بعد وفاته، وتأقلمت على هذا الحال، نعيش كغيرنا بسطاء، لكن حياتنا تحوّلت إلى كابوسٍ خلال الحرب، بسبب انقطاع الرواتب وزيادة نسبة الخصم والعمولة عليها بشكل جنوني”.
تشير فاطمة إلى قنوات المياه التي تمر قرب خيمتها، وتكمل: “أقيم حاليًا في خيمةٍ تشبه المقبرة، محيطنا كله ملوث، بسبب مرور مياه الاستخدام المنزلي من بين الخيام، التلوّث يحيط بنا من كل جانب”.
تعيش أسرة فاطمة معاناة مضاعفة بسبب الحرب، وغلاء الأسعار، وقلة الإمكانيات الطبية، خاصة بعدما تفشّت الأمراض والفطريات الجلدية والفيروسات في جسدها بسبب التلوث داخل مركز الإيواء الذي تقيم فيه، دون وجود علاج، بسبب شحّ الأدوية في قطاع غزة نتيجة الحرب.
وعزا موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين، سبب انتشار الأمراض الجلدية إلى التكدس بالخيام ومراكز الإيواء وسط انعدام أدوات النظافة والصرف الصحي.
فاطمة: جروحي صارت تطلع منها روائح كريهة
بحسرةٍ تشير إلى حبوب وتقرحات في ساقيها وهي تكمل: ” الفطريات تفشت في كل جسمي وما في علاج، جروحي صارت تطلع منها روائح كريهة، أخجل من الجلوس مع الناس، كل هذا بسبب قلة الغيارات المتوفرة، حيث بات الغيار يتطلب الاصطفاف في طوابيرٍ لساعات إن توفر ببعض المراكز الصحية”.
تبكي فاطمة وهي تشرح: “أنا مريضةٌ بالسكري منذ عشر سنوات، كنت راضية بمرضي ومتعايشة معه، أتمنى أن ترجع حياتنا لما قبل 7 أكتوبر 2023م، أنا جسمي انهلك وفش رعاية كافية ولا علاج”.
أصيبت فاطمة بمرض السكري عام 2014م، كانت خلالها تتابع حالتها الصحية بشكل مستمر، وتحصل على العلاج المناسب لها من داخل عيادة وكالة الغوث في مدينة رفح، دون انقطاع، لكن بعد الحرب تغيّر كل شيء، ولم تعد تتمكن من الحصول على علاجِها بشكل منتظم.
فاطمة: كيف رح أحافظ على إبر الأنسولين واحنا بالخيم
تكمل: “فجأة انقطع العلاج بسبب النزوح إلى خارج مدينة رفح هربًا من الموت، الألم لم يتوقف هنا، فأنا كنت أفكّر دومًا كيف أستطيع تأمين الأدوية الخاصة بمرضي، “لما كنت بالدار قبل الحرب كنت (أرتك رتك) على الإبرة لما أولادى يرجّعوها ع التلاجة”، حاليًا إن توفرت؛ كيف رح أحافظ على إبر الأنسولين واحنا بالخيم؛ دون أن تسقط إحداهما وتنكسر، ودون تبريد مناسب يحفظها من التلف”.
وتعمد الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب على قطاع غزة، حرمان المرضى من حقهم في العلاج، فمن خلال قطعه التيار الكهربائي عن قطاع غزة، تسبب بعدم إمكانية تبريد إبر الانسولين لتحتفظ بجودتها.
كانت فاطمة تتحدث بينما تحاول ابنتها آية (16 عامًا) تهوية تقرّحات حبوب أمها بقطعة من الكرتون، تقطع حديث والدتها لتقول: “كانت أمي منتظمة على نظامٍ غذائي وحمية من كل الأغذية التي ترفع نسبة السكر، لكن حاليًا تعاني الكثير من المشاكل الصحية، نتيجة انعدام الأدوية، وخاصة غيارات الجروح”.
وتضيف الشابة التي استبدلت زي المدرسة بثوب الصلاة، وبات الاهتمام بالمسؤوليات المنزلية داخل الخيمة جزءًا من حياتها بدلًا من الدراسة: “كنت طالبة بالثانوية قبل الحرب، أتعمّد الالتحاق بالفترة المسائية بالمدرسة كي لا أترك أمي وحدها، كنت أتعاون معها في كل شيء يتعلق بعمل البيت، وحاليًا أساعد في كل تفاصيل حياة النزوح”.
محمد: لا ضل مستقبل ولا ضل حياة ولا شغل
محمد (25 عامًا)، هو الابن الأكبر لفاطمة، كان يعمل في أحد المولات التجارية بمدينة رفح، وفي ذات الوقت يطمح لتأسيس مركز ترجمة، لكن حالت الحرب دون تحقيق حلمه، بل إنه ومنذ اجتياح مدينة رفح، توقّف عن العمل، وفَقد مصدر دخله.
يقول محمد: “لا ضل مستقبل ولا ضل حياة ولا شغل، كنت أساعد والدتي في مصروف المنزل والعلاج، إلى جانب راتب والدي المنتقص، الآن فقدتُ عملي ولا أستطيع توفير أي شيء، الوضع الاقتصادي صعب جدًا، حاليًا والدتي تتناول الوجبات دون أن تسأل عن مكوناتها، نعتمد على طعام التكيات التي تُوزع علينا بسبب غلاء المعيشة وندرة الطعام الصحي الخاص بها”.
يتنهّد محمد بحسرةٍ ويستكمل: “فش مصدر دخل يساعد على توفير احتياجات والدتي “.
فاطمة: لا مجال للخصوصية ولا لتهوية الجروح في الخيمة
عودة إلى فاطمة التي تكمل: “تنعدم الخصوصية في خيام النازحين، جروحي تحتاج إلى تهوية، لا مجال للخصوصية ولا لتهوية الجروح في الخيمة، تغيير ملابسي وتعقيم الجُرح أعلى رِجلي صعب جدًا في ظل تواجدنا داخل خيمة واحدة، نحن محاطون بالناس من كل الجهات، وإمكانية فتح ستار الخيمة متاحٌ للجميع”.
تتابع: “أحاول قدر المستطاع الهروب إلى خيام إخوتي، لعلّي أجد نوعًا من الخصوصية، لكن لا مفرّ من العودة لخيمتي، فنحن عائلة كبيرة، وكان الله في عون كل منا على ظروفه”.
تحيط العديد من خيام النازحين بخيمة فاطمة، ولكل خيمةٍ بئر صرف صحي، عمل على تكاثر الحشرات والفيروسات التي تؤثر سلبًا على الوضع البيئي في المخيم، والذي تسبب بإصابة فاطمة بالحبوب والتقرحات، وصعوبة علاجها نتيجة إصابة السيدة بمرض السكري.
كانت فاطمة تعتمد سابقًا على شراء المياه الصالحة للشرب، ولكن الآن تعتمد على سيارات المياه المجانية نتيجة غلاء أسعار مياه الشرب، رغم أن ذلك يؤثر على صحتها، نظرًا لعدم الثقة بمستوى نظافة هذه المياه.
تقول فاطمة: “يضاف إلى ذلك غلاء أسعار المنظفات، فلم أعد قادرة على توفيرها، استبدلتها بالرمل من أجل تنظيف أدوات المطبخ، كما أستحم بالمياه فقط كي لا تؤثر مواد التنظيف المصنّعة محليًا على الجرح وتزيد حالته سوءًا، مثلما حدث معي سابقًا وتسبب في تفاقم الحبوب التي أصبحت أشبه بالحروق”.
تبكي فاطمة وهي تكمل: “حتى بيتنا تدمر، يا ريتني ما سمعت خبر تجريف البيت، كان عندي أمل أرجع أعيش فيه، بعد هدم البيت لم يبق لديّ شيء، ومصيرنا مجهول، سنكمل حياتنا في خيام وسط المرض والأوبئة، حتى لو توقفت الحرب”.
يتناقض ما تتعرض له فاطمة، مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (55) إنه من واجب دولة الاحتلال العمل على تزويد المدنيين بالمؤن والإمدادات الطبية، كما نصت المادة (56) من الاتفاقية ذاتها أنه من واجب دولة الاحتلال وبالتعاون مع السلطات المحلية، العمل على صيانة المنشآت والخدمات الطبية، واعتماد طرق وتدابير وقائية لمكافحة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة.
ووفق إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، صدرت يوم 7 ابريل/نيسان 2024م، بمناسبة اليوم العالمي للصحة، فإن نحو 71 ألف مريض ومريضة سكر في قطاع غزة، حرموا من تلقي الرعاية الصحية بسبب الحرب، من أصل 350 ألف مريضة ومريضًا بالأمراض المزمنة.
تحديات كثيرة واجهتها فاطمة أهمها أنها لا تتناول الوجبات التي تناسب وضعها الصحي، بسبب غلاء الأسعار الفاحش، فتضطر للتعايش مع البدائل الموجودة، والتي تتسبب في تراجع صحتها.
تشير أم محمد لكون طفلتها الصغيرة رهف (11 عامًا)، تعاني من التبول اللاإرادي، نتيجة الخوف الشديد عند سماعها القصف، حتى وإن كان بعيدًا، وأيضًا هي عاجزة عن متابعة وضعها الصحي، حيث تعاني طفلتها من كسلٍ في عينيها، وتحتاج إلى مركزٍ متخصص لعلاجها.
توضح فاطمة: “أخشى على طفلتي من مضاعفات مشكلتها، ألاحظ أنها تشكو من عدم وضوح رؤية بشكل مستمر”.
وفي ظل الخيام، كانت فاطمة كلما شعرت بفقدانٍ في توازنها، تجد أولادها إلى جانبها، يسرعون لإعطائها ملعقة من السكر أو قطعة من التمر، لعدم وجود بدائل، لكن فاطمة باتت تخشى على حياتها حاليًا، وتتساءل ماذا إن أصابتها نوبة سكر مفاجئة؛ في ظل انشغال أولادها بمهامهم اليومية التي فرضتها الحرب، من جلب مياه وطعام.
تختم: “مع كل الألم الذي أعانيه بسبب الحبوب والتقرحات، أخشى أن تصيبني نوبة سكر مفاجئة، ولا أستطيع نجدة نفسي، أخشى فقدان حياتي وأن يصبح أبنائي بلا سند”.