أم محمد… الفقر المرّ بطعم الفستق
خانيونس/ بقلم: مصطفى دوحان
كخلية نحلٍ بدأ مشهدُ السيدة أم محمد “50 عامًا” وبناتها وهن يعملن بجدٍّ في فتح شوالاتٍ مليئةٍ بالفول السوداني “الفستق” واللوز، يقمن بتكسير القشور باستخدام المشرط، يسابقن الزمن من أجل إنجاز أكبر كميةٍ ممكنةٍ في وقت قصير!
فالسيدة وبناتها اتخذن من هذه المهنة المتعبة مصدر دخل لهن، رغم انخفاض العائد المادي لها، لكنه يبقى في نظرهن أفضل من البقاء دون مال في ظل عدم وجود مصادر دخلٍ أخرى، للإنفاق على بيتها وزوجها المريض.
تعيش أم محمد، وهي أم لاثني عشر ابنًا وبنتًا، في بيتٍ قديمٍ بمنطقة عبسان الكبيرة شرقي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وفي ظل معاناة قطاع غزة من ارتفاع نسبة الفقر التي وصلت إلى 56% وفق تقديرات المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، واعتماد 11% من الأسر الفلسطينية على النساء كمعيلاتٍ رئيسيات، لجأت السيدة وبناتها الأحد عشر إلى مهنة “تقشير اللوز والفستق”.
تقول أم محمد:” نجتهد أنا وبناتي ليلًا ونهارًا لإتمام العمل بسرعة، نقشّر يوميًا كميات للتجّار بمبلغ (50) شيكلًا لكل شوال وزنه (25) كيلو جرامًا، وهو مبلغ زهيد مقابل الجهد المبذول والذي يمكن أن يستمر ليومين، ولكن هذا أفضل من لا شيء”.
تمسك أم محمد بالمشرط في يدها اليمني وحبيبات الفول السوداني في اليد اليسرى، يتصبب العرق على جبينها وهي تواصل العمل بلا توقّف تحيط بها شوالات الفول السوداني واللوز، فلا ساعات محددة للعمل، المهم إنجاز الكمية المطلوبة، كي يحظوا بمالٍ يسد رمق العائلة.
تشمّر أم محمد عن ذراعيها الخشنين وقد امتلأت ملابسها بغبار الفستق الذي تعمل على تقشيره بشكل متواصل منذ ساعات الصباح، وهي تقول لمركز الإعلام المجتمعي: “اضطررت للعمل بسبب مرض زوجي الذي أصيب بإعاقة جعلته غير قادر على العمل، كنا مستفيدين من شيكات الشؤون الاجتماعية، ولكن بعد أن توقفت بحثنا عن أي فرصة، ورغم العائد المادي البسيط لهذه المهنة ولكن نضطر للعمل”.
تمسك السيدة بالمشرط لتزيل القشرة السميكة عن حبة الفول السوداني لتستخرج النواة، واحدة تلو الأخرى، وهكذا منذ الصبح، ورغم علامات الإرهاق التي بدت واضحة على ملامح وجهها نتيجة هذا العمل؛ لكنها ترفض الاستسلام للواقع ولا يكاد ينقطع صوت الأمل المنبعث من بين حروف كلماتها بأن “الغد سيكون أفضل”.
هنا، حال أم محمد مثل الكثير من النساء اللوات يلجأن للعمل بشكلٍ غير منظّم (خارج إطار النقابات) لتحصيل قوت عائلاتهن، حيث لا حقوق عمالية ولا رعاية رسمية من الدولة التي يفترض أن تتكفل باحتياجات الفقيرات ورعاية العاملات منهن.
تبدأ السيدة العمل مع تباشير الصباح حتى وقتٍ متأخرٍ من النهار، ومع ذلك هي بالكاد توفّر نفقات علاج زوجها وبعض احتياجات البيت الأساسية، مسؤولية كبيرة على عاتقها والدخل صغير.
تضيف: “ابنتي مخطوبة وهي على وشك الزفاف، وطبيعي فإن الأهل يساهموا في تجهيز ابنتهم، مطلوب مني المساهمة في توفير احتياجاتها وكذلك ملابس يوم الزفاف لكل أخواتها، وفوق كل هذا تكاليف المدارس لباقي بناتي”.
أعباء إضافية على كاهل السيدة التي تتمنى أيضًا دخول ابنتها التي أنهت الثانوية العامة هذا العام إلى الجامعة، كي لا تُحرم من فرصتها في التعليم الجامعي، أما الباقيات فيحتجن ملابس لمدارسهن وحقائب وكُتب ورسوم مدرسية، ومصروف يومي، وكلها أعباء على عاتق أم محمد وحدها.
لم تسلم السيدة من بطش الأداة الحادة التي تستخدمها، فيداها مليئان بالجروح بسبب المشرط الذي استدعى ذات يومٍ تدخّلًا طبيًا، ولكن لسوء حالتها الاقتصادية اضطرت لتجاوز ذلك وإلصاق الجرح بلاصق عريض وتجاهل آلام الجرح، ومواصلة العمل.
“لا حقوق ولا أوقات فراغ ولا تأمين ولا أي شيء”، تقول أم محمد، فالعمل متعب، وهي تلقّت مساعدة من جيرانها الذين سبقوها في هذه المهنة، ومع التضييق المستمر من التاجر عليها واستعجاله لها لمواصلة العمل كي يحصل على بضاعته لتوزيعها، دون مراعاة تعبها، كانت مضطرة للاجتهاد والعمل تحت أي ظرف.
تحاول أم محمد بث الكثير من كلمات الأمل، تخفي خلفها الكثير من تفاصيل التعب التي تتوارى خلف رقرقة دمعة تحجّرت في مقلتها دون أن تسقط، وخاطر مكسور تشي به تنهيدتها المتكررة بين وقت وآخر، وجرح يبحث عمن يداويه، لكنها تبقى قصة كفاح منسوج بالأمل وعزيمة تنتظر أن تزيح الأشواك بالورود.
وبسبب البطالة المتزايدة في قطاع غزة تلجأ العديد من النساء مع اطفالهن للعمل دون الحصول على أدني الحقوق العمالية في انتهاك صارح للحق في العمل في ظروف بيئة مناسبة مع مراعات شروط السلامة المهنية في بيئة العمل والحق في الحصول على أجور عادلة دون استغلال كحد أدنى للأجور.
ويحق للنساء الفلسطينيات المهمشات المطالبة بالحماية من البطالة وكذلك حق الأُسر في الضمان الاجتماعي كالحصول على الحقوق المالية للفئات المهمشة والفقيرة التي تكفلها وزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية والتي توقفت عن صرف المخصصات المالية منذ أكثر من عام ونصف.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”.