ضحايا التحرش يكسرن حاجز الصمت بشجاعة

غزة/ بقلم أصالة كلّاب:

16 عامًا مرّت وما زالت الشابة مريم ” 28 عامًا” تتذكر بالتفصيل تعرّضها للتحرّش على يد جارٍ لهم كانت تخاطبه بلقب “عمو”، وذات الشعور بالاختناق يلاحقها كلما طافت الأحداث برأسها.

في ذلك الحي الضيّق ذو البيوت الصغيرة الفقيرة المتلاصقة، تسكن “مريم” (اسم مستعار) مع عائلتها الصغيرة، حيث كان جارٌ لهم يبدو الصلاح على محيّاه، ولكن حدث ما لم تفهمه حينها!

تقول مريم لمركز الإعلام المجتمعي: “بيت هذا الجار ملاصق لبيتنا لسوء حظي، كنت ألعب مع أبناء الجيران كعادتي، غمزني بمعنى انتظريني، وبعد عودته من الصلاة كنت أنتظره فهو اعتاد أن يُخرِج بعض الشواكل ويوزع علينا”.

سَحَبت أنفاسها بصعوبة وأكملت: “هذه المرة بعد أن أعطاني الشيكل، أمسك يدي وأخذني إلى بيته، وهناك بدأ يمرر يديه على جسدي ونزع ثيابي، كنت متجمّدة ولم أفهم ما يفعله، لكن شعرت بالخوف والشديد، أردت الصراخ، سألت نفسي أين أهل البيت، لا أحد هنا، خرجت خائفة”.

عادت الطفلة مريم إلى بيتها وهي ترتعش، لكنها لم تخبر أحدًا، وكما تروي نَظَرت إلى نفسها في المرآة، حاوَلت فهم ما حدث، ليس لديها تفسير، فمفهوم الاعتداء الجنسي غير معروف بالنسبة لها، كرر الجار فعلته مع الطفلة التي ضَمِن صمتها واستغل خوفها، لكنها أصبحت انطوائية تخاف الناس وتخشى الحديث معهم.

تسبب ما تعرّضت له “مريم” في كُرهها لذاتِها وجسدهِا، أصبحت تنظر باشمئزاز إلى الرجال، لم تكن تدرك أن هناك معتدين وآخرين غير ذلك، بدأت تحب الحياة فقط حين توفي المعتدي قبل أربع سنوات، مات ولم تسامحه مريم، لكنها قررت أن تعود إلى حياتها الطبيعية!

تضيف: “خضعت للعلاج النفسي، فأنا كبرت ووعيت المشكلة، فهمت أن ما جرى كان اعتداءً وأن الذنب ليس ذنبي، وبدأت أسمع قصص الناجيات من العنف الجنسي وكيف تجاوزن الأزمة وأصبحن قويات ومسانِدات، تبادلنا الحديث عن أزماتنا لنقوّي بعضنا وعقدنا العزم أن نكون جزءًا من توعية القاصرات، أن هناك شيء اسمه تحرش ومتحرِش وكيف يتعاملن معه”.

تتابع الشابة أنها رغم خضوعها لجلسات دعم نفسي ما زالت آثار التجربة باقية في ذاكرتها وتؤثر على وضعها النفسي، خاصة وأنها ما زالت تتعرض للتحرش اللفظي في الشارع وعبر التكنولوجيا، بكل الأحوال هي فهمت كيف تصدّ المتحرشين، ولكن ظلت تأمل أن تتوقف هذه المشكلة وألا تعاني أي فتاة أبدًا من التحرش.

ليلى “22عامًا” شابة أخرى تعرضت للتحرش عندما كانت في المرحلة الإعدادية، ولكن هذه المرة من قِبل طلاب في مثل عمرها، فمدرستها كانت قريبة من مدرسة ذكور، ووقت انتهاء الدوام المدرسي يوجهون لها ولصديقاتها ألفاظًا خادشةً للحياء.

كانت تشعر بالخوف والضيق وتضطر إلى الصمت خشية إبلاغ أهلها وعندما كبرت تعرضت أيضًا للتحرش عبر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال إرسال المتحرشين لكلمات بذيئة وصورٍ إباحيةٍ، وأيضًا كانت تخشى إخبار أحد.

تقول “ليلى”: “لم أكن أعرف ما هو التحرش، فهمت أن كثيرات يعانين منه عندما دشنت نساءٌ ناجيات من التحرش حسابًا على تويتر باسم “me too gaza” عام 2018، حينها فهمت المشكلة وتوقفت عن لوم نفسي، وتقرّبت من نساء مسانِدات وقويات، تغذّينا الشجاعة بدعم بعضنا بعضًا وهنا شعرت أن حياتي تغيّرت وصقلت شخصيتي وبدأت بالحديث إلى والدتي عن التحرش والمواقف التي مررت بها دون خوف”.

تغيّرت” ليلى”، حتى إنها حين تعرّضت للتحرش من راكب في سيارة تاكسي، قامت برشّ رذاذ الفلفل الذي صنعته في بيتها عليه، والسائق بدوره طرده، وحين تعرضت لتحرّش لفظي من زميل لها في العمل، قدمت شكوى رسمية إلى إدارة المكان الذي تتطوع فيه، واستجابوا لشكواها بطرده، فلولا شجاعة الناجيات ومشاركة قصصهن، ما وصلت هي إلى هذه الشجاعة.

ورغم عدم وجود إحصائية رسمية ترصد تعرّض النساء للتحرش؛ إلا أن أحدث بيان أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في 8 مارس 2022، يؤكد إن ما نسبته 9.4% من النساء تعرضن للعنف الجنسي مرة واحدة على الأقل دون أن يفصّل التقرير مصدر العنف.

جواهر بركات، أخصائية نفسية في جمعية عايشة لرعاية المرأة والطفل، أكدت أن التحرش الجنسي هو أذى تستمر آثاره النفسية والاجتماعية إلى مدى طويل، من الصعب محوه من ذاكرة الناجية، فالمؤثرات النفسية والاجتماعية التي تمر بها الضحية، من اضطرابات سلوكية وانطوائية وضعف التحصيل الدراسي وتراجع تقدير الذات، تسبب الاكتئاب المزمن للضحية، الأمر الذي قد يفضي إلى الانتحار.

هناك عدة طرق لمساعدة الفتيات اللواتي يتعرضن للتحرش والعنف المبني على النوع الاجتماعي، تقدمها جمعية عايشة وفقًا لبركات، من بينها الدعم الفردي بوجود ومساعدة أخصائيات نفسيات لمساعدة النساء والفتيات.

وتمر عملية تقديم الدعم للفتيات والنساء بأربعة مراحل، توضحها بركات؛ الأولى تقديم الدعم النفسي، والثانية الدعم الاجتماعي عن طريق الالتقاء بناجيات يدعمن بعضهن، وغالبًا يتحوّلن لشركاء في مواجهة التحرش، والثالثة تقديم الإرشاد الأسري، والرابعة السلامة والحماية عن طريق الشرطة وتوفير بيوت أمان للفتيات المعنّفات، وتقديم الاستشارات القانونية والخدمات الصحية الطارئة وغير الطارئة.

هنا، نصدّق الناجيات لأن كل امرأة تدافع عن نفسها هي تدافع عن جميع النساء، نصدقهن لأنهن خضن معاركًا كبيرةً مع أنفسهن كي يستطعن البوح، فقد كان الحديث عن هذا الموضوع محرّمًا مجتمعيًا، وشجاعة الناجيات كسرت حاجز الصمت، وأدخلت كلمة “تحرش” إلى قاموس التداول الاجتماعي.

وينقسم التحرش الى ثلاث أقسام، الأول وهو جسدي والثاني لفظي ” بالأشارة أو الخطابة مباشرة أو إلكتروني، والثالث هو إبداء أي نوع من الحركات منافية للحياة، ويعاني القانون الفلسطيني المعمول به من عدم شمولية معاني التحرش، حيث أنه لا يوجد نص قانوني واضح لتجريم التحرش اللفظي والمنافي للحياة ورغم ذلك يعاقب الجاني بالغرامة المالية والسجن بحسب الحالات الواقعة.

ولا زال القانون الأردني للعام 1960 هو المطبق في الضفة الغربية والذي لم ينص على مصطلح “التحرش” حتى يمكن التمييز بين حالات التحرش، وتنص  المادة “296” منه، على “هتك العرض بالعنف أو التهديد” وتنص عقوبته بالسجن مع الاعمال الشاقة لمدة بين 4 سنوات الى 7 سنوات.

وينص الفصل  الثامن من قانون الطفل الفلسطيني في مادته (42) على أن للطفل الحق في الحماية من أشكال العنف أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية وتتخذ الدولة التدابير اللازمة كافة لتأمين الحق المذكور.

وينص قانون العقوبات لعام ” 1936″ المطبق في قطاع غزة وتحديدا المواد المتعلقة بالجرائم الجنسية وما ورد  في المادة (160) الخاصة بالأفعال المنافية للحياء مع الأولاد حيث عاقبت الجاني بالحبس  ثلاث سنوات على اعتبار انها جنحة، فيما نصت المادة (152) على أن كل من واقع ولداً دون سن الستة عشر عاما او لاط به، يعتبر ارتكب جناية ويعاقب بالحبس 14 عاما، وهنا عوار واضح في القوانين الفلسطينية التي تقف عاجزة عن تحديد فعل التحرش ومن هو المتحرش وما هي العقوبات الواردة على المتحرشين، حيث اننا بحاجة ماسة لقانون عقوبات فلسطيني موحد عصري قادر على معالجة ومجاراة تطور الجرائم في العصر الحديث.

تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى