من غياهب السجن إلى فقدان العائلة (اشتقنالك يا سيدو)… وليد يتجرّع الحزن وحيدًا
من غياهب السجن إلى فقدان العائلة
(اشتقنالك يا سيدو)… وليد يتجرّع الحزن وحيدًا
الزوايدة -هيا بشبش:
متكئًا على فرشةٍ تحت شجرةِ زيتون في أحد مخيمات النزوح بمدينة الزوايدة وسط قطاع غزة، كان وليد حبيب (61 عامًا) يجلس فاقدًا للشغف بأي شيء، بدأ حديثه متململًا وهو يعرّف بنفسه: “أنا من سكّان حي الشجاعية شرق مدينة غزة، كنت ضمن القلائل الذين أصّروا على رفض النزوح وأوامر الإخلاء التي أصدرها جيش الاحتلال الإسرائيلي”!
اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي وليد وابنه أحمد (27 عامًا) يوم 2 يوليو/تموز 2024م، من منزله في حي الشجاعية، واستشهد معظم أفراد أسرته بعد خروجه بأسبوعين.
يروي وليد الحكاية: “منذ بداية الحرّب تنقّلنا أنا وأسرتي من منزل لآخر هربًا من الموت، لم أكن أعلم أن جميعهم سوف يستشهدون، كنا نبحث عن الأمان، رفضنا النزوح خارج غزة، مرّت الأيام ثقيلة علينا، تخطيّنا آلام المجاعة التي ضربت شمال قطاع غزة، كنا أنا وابني أحمد نبحث في الطرقات وفي أي بقعة خضراء عن الخبيزة أو أي نبات أخضر صالح للأكل”.
عدّل جلسته وتابع: “من وقتٍ لآخر، كنا أنا وأحمد نتفقّد المنزل، وهذا ما فعلناه يوم 2 يوليو/تموز 2024م، حين اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي المنطقة دون تحذير، وما إن وصلنا المنزل حتى بدأت طائرة الكواد كابتر بإطلاق النار على المنزل، وحوصرنا داخله”.
اقتحم جيش الاحتلال المنزل، ومع أن وليد وابنه أحمد حملوا قماشةٌ بيضاء لتأكيدِ أنهما مدنيان، لكن جيش الاحتلال أطلق قنبلة يدوية أصابت يد وليد بجراح بليغة، يرفع يداه لأعلى وهم يكمل: “رفعنا أنا وأحمد أيدينا للأعلى أخبرتهم أنني صاحب المنزل، أمروني بعد إصابتي بخلع ملابسي وأحمد كذلك، ووضعوا الأصفادَ في أيدينا وأرجلنا وبدأ العذاب”!
أسلوبٌ جديدٌ من التعذيب عاشه وليد الذي كاد قلبه يتوقّف خوفًا على نفسه وعلى ابنه أحمد، فقد وضعه جيش الاحتلال أسفل جنازير الدبابة التي تقدّمت نحوهما!
جحظت عيناه وهو يروي:” أرادوا بثّ الرعب في قلبي وجسدي الذي تملؤه الجراح، عندما لامست الدبابة أجسادنا توقّفَت، وقاموا بسحبنا، بعد ذلك نقلونا إلى منطقةٍ صحراويةٍ ليلة كاملة ونحن نجلس القرفصاء دون شفقة، كانوا يطلقون كلابهم لتبدأ باللهاث والنباح، وتنهش أجساد الأسرى”.
يشير وليد إلى آثار جروح ما زالت ظاهرة على يديه وقدميه، مضيفًا: “عانيت في المعتقل من مختلف أنواع التعذيب، أولها فصلي عن ابني وعدم إخباري بمكانه، طلبت منهم العلاج لجروحي ولم يستجيبوا”.
قضى وليد أسبوعين في سجن صوفا، عانى خلالهما الضرب والتنكيل، ومنه إلى سجن عوفر، يعقّب: “فقدت وعيي من شدّة الضرب، ومع ذلك لم يتوقفوا، عدت لوعيي وهم مستمرون بضربي، اعتقلت وجروحي تنزف، وخرجت وقد زاد نزيفها، حتى عند الإفراج عني لم يخبروني، بل وضعوني في قفصٍ وكثفوا تعذيبهم لي ولأسيرين معي، واقتادونا بالشاحنة معصوبي الأعين إلى معبر كرم أبو سالم يوم 27 أغسطس/آب 2024م”.
أمر جيش الاحتلال وليد وأسيران كانا معه بعدم رفع العصبة إلا بعد تخطيهم الحاجز الثاني، وبدأ إطلاق النار تحت أقدامهم وحولهم، ولم يستطع السير بسبب جراجه إلا بمساعدة الأسيرين، حتى وصلوا إلى المستشفى الأوروبي الذي حوّلهم لمستشفى ناصر بمدينة خانيونس، وبعدما نشروا صورته واسمه على مواقع التواصل الاجتماعي، حضر ابن أخيه من الزوايدة لاصطحابه.
داخل خيمة مشتركة مع ابن أخيه، أقام حبيب دون مصدر دخل، اتصل هاتفيًا بزوجته أم أحمد التي كانت قد نزحت صوب بيت أهلها في مدينة غزة، وقد علمت باعتقاله من خلال الصليب الأحمر بعد (15) يومًا من الاعتقال.
يقول وليد: “تحدثت هاتفيًا مع جميع أحفادي الذي أفتقدهم جميعًا، أخبروني باستشهاد ابني محمود الذي استشهد وهو يبحث عني وعن أخيه، بكيته كثيرًا، ولكن لم أتوقع أنني سأبكيهم جميعًا”.
التفّ بعض أهالي المخيم يستمعون لقصة وليد الذي يكمل: “أكثر جملة رددها أحفادي اشتقنالك يا سيدو، زوجتي أم أحمد رفيقة العمر لـ(36) عامًا كنت أنتظر بشوق خروجي من السجن لألتقيها وألتقيهم، فهم الأمان والسعادة، قصف الاحتلال منزل عائلة زوجتي الذي نزحوا إليه بعدما قصف منزلنا واعتقلني أنا وأحمد”.
تهطل الدموع بغزارة من عيني وليد الذي لا يعرف بعد أخبار ابنه أحمد، ويبكي أفراد عائلته الذين استشهدوا دون أن يحظى حتى بلحظة وداع أو وضع وردة على قبورهم، وهو يختم: “استشهد خمسة من أحفادي، وبقيت ابنة الأسير أحمد مصابة وبحاجة لجراحة في الحوض، وبقي ابني خالد، أما زوجات أبنائي، فقد استشهدت اثنتان وبقيت واحدةً مصابة، ومعهم زوجي الغالية أم أحمد (58 عامًا) وأهلها بالكامل”.