غادرت السجن ولم تغادرها آلامه
قطاع غزة/ بقلم: هديل فرحات
الأسيرة المحررة نسرين أبو كميل تروي معاناة الاعتقال في سجون الاحتلال الاسرائيلي
حَضرت بثوبٍ فلسطيني مطرّز مُحاك بعناية، صوت الأهازيج ما زال يتردد في بيتها وابتسامة فرح ارتسمت على محيّاها طال غيابها، فالأسيرة الفلسطينية المحررة نسرين أبو كميل تحتفل بنجاح ابنتها في الثانوية العامة، كأول مناسبة سعيدة تدقّ باب بيتها بعد الإفراج عنها من سجون الاحتلال الإسرائيلي.
نسرين أبو كميل “46 عامًا” هي أسيرة محررة وأم لسبعة أبناء أصغرهم لم يتجاوز 8 سنوات، اعتقلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، أثناء توجهها لزيارة أهلها في مدينة حيفا بالداخل المحتل عام 2015 وحكمت عليها بالسجن 15 عامًا بتهمٍ مزعومة، قبل تخفيض الحكم إلى 6 سنوات، بعد جهود من المحامي، حيث أنها تعرضت للاعتقال التعسفي فقط لأنها أرادة زيارة أهلها في مدينة حيفا الواقعة في الداخل المحتل.
رغم جمال اليوم الذي التقت فيه مركز الإعلام المجتمعي، لكن سرعان ما تنهّدت بألمٍ لدى حديثها عن ظروف اعتقالها، وما تعانيه الأسيرات الفلسطينيات لدى الاحتلال الإسرائيلي في سجن الدامون، حيث مازالت 32 أسيرة رهن الاعتقال التعسفي يعشن ذات الظروف القاسية داخل المعتقلات ويتعرضن للحرمان من حقوق الزيارة والمحاكمة العادلة، بالإضافة الى التعنيف اللفظي والايذاء الجسدي والتعذيب النفسي.
تحكي أبو كميل: “عندما وصلت إلى حاجز بيت حانون، وضعوني بعنف داخل أحد الجيبات العسكرية ونقلوني إلى التحقيق، حيث تعرّضت للتعليق “الشبح” على ارتفاع 10سم عن الأرض في غرفة مظلمة، وأجواء غير إنسانية، وكان أحد الضباط الذين استجوبوني يقول لي أنتِ تعملين لصالح المقاومة الفلسطينية، وادّعى أنني أذهب إلى حيفا لمساعدة المقاومة وليس لزيارة عائلية”، وهو ما يتنافى مع قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئ الحقوق التي تكفل كرامة الانسان والحق في التنقل والسفر دون قيود تعسفية.
سرعان ما تهدّج صوتها ووضعت يدها على صدرها كأنها توشك على الاختناق، تمامًا كما كل مرة تعيد فيها الحديث عما حدث معها أثناء الاعتقال التعسفي ومع ذلك فهي مصرّة على البوح بمعاناة الأسيرات والأسرى داخل السجون الإسرائيلية والتي تتجسد في انتهاكات جسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني.
تكمل السيدة أبو كميل: “التحقيق سبّب لي آلامًا جسدية نتيجة التعليق “الشبح” لـ20 ساعة، غير الآلام النفسية الناتجة عن الشتائم بكلمات بذيئة من قبل المحققين الإسرائيليين، واتهامي بالكذب بعد عرضي على ما يسموه “جهاز الحقيقة”، بينما كانت شديدة القلق على أبنائها الذين تركتهم في البيت وخاصة الرضيع أحمد الذي لم يبلغ 8 شهور ويُضاف إلى هذا سكب الماء البارد فوق رأسها في ظل أجواء شهر تشرين التي تتجه نحو البرودة، وتعاني معظم الاسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال من انتهاكات خطيرة بحقهن تتمثل بالتعنيف اللفظي والجسدي والتعذيب والنقل الى أماكن الاحتجاز الانفرادي التي لا تليق بكرامة الانسان.
لم تكن أبو كميل تعاني من أي مرض قبل اعتقالها، ولكن ها هي تخرج مصابة بأمراض الضغط والسكر وسرطان الغدد نتيجة لما تعرضت له من انتهاكات جسيمة جسدية ونفسية دون مراعاة معايير المحاكمة العادلة.
توضّح: “دخلت السجن بخير، لكن الاحتلال يستكثر علينا الصحة فبعد جولات من التعذيب في التحقيق، وتلقّي الحكم والانتقال إلى السجن كانت هناك ظروف أخرى قاسية، فنحن نعيش في غرفة ضيقة رطبة منخفضة، تنبعث من جدرانها المهترئة رائحة الرطوبة وتمنع إدارة السجون إدخال ملابس الشتاء لنا ويفرضون قيودًا على الاستحمام، أما نحن الأسيرات فكنّا مقيّدات باستخدام الحمامات نتيجة خوفنا من الكاميرات المراقبة التي تنتهك خصوصيتنا” وهو ما يتسبب بضغط نفسي للأسيرات داخل السجون.
ظروف السجن هذه تسببت في إصابة أبو كميل بالأمراض سالفة الذكر والأسوأ أن الاحتلال يمارس بحق الأسيرات والأسرى الإهمال الطبي بشكل متعمد وهو ما يخالف اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها وبحسب ما ذكرته الاسيرة نسرين كان العلاج الوحيد المتوفر داخل السجن هو الأدوية المسكنة، بل إن الإهمال يطال الحالات الحرجة التي تعاني من أمراض خطيرة والمزمنة وتمارس إدارة السجن انتهاكات بحق المرضى الذين تضعهم على قوائم الانتظار لشهور حتى يتم عرضهم على الطبيب، بينما تكون الحالة الصحية قد تدهورت ووصلت الى حد التهالك والموت، ناهيك عن عدم وجود طبيبة نسائية.
كما كل الأسرى، تتعرض الأسيرات لمهاجمة حرّاس السجون لهن وخاصة عند حدوث تفتيش، فلا شيء يرعب الاحتلال أكثر من الكتب، حيث تتعرض أقسام السجن بما فيها الأقسام المخصصة للنساء لحملات تفتيش تعسفية يستخدم فيها الجنود الكلاب والعصي والغاز المسيل للدموع والتعنيف الجسدي واللفظي في انتهاك صارخ للحقوق الإنسانية والقانون الدولي الإنساني.
تروي أبو كميل: “كانوا في كل حملة يتخلّصوا من الكتب التي تسلّينا ونتثقف من خلالها، فعند صدور أمر التفتيش، يُحضروا الكلاب البوليسية التي تقتحم الغرف وتخرّب محتوياتها ويُخرِجون الأسيرات بالخارج، وقد تتعرض بعضهن للتعرية في حال الشك بوجود شيء معها ويتم مصادرة ممتلكاهن وخاصة الكتب والأدوية وبعض الملابس والصور والتحف التذكارية التي تحمل ذكريات خاصة لكل منهن وثم يسمح للأسيرات العودة الغرف وخلال هذه العملية يتعرضن الاسيرات لوابل من الشتائم والكلمات البذيئة.
في أكتوبر 2021، أفرجت سلطات الاحتلال عن نسرين أبو كميل والتي كانت في أشد الشوق لاحتضان أبنائها الذين حُرمت رؤيتهم طوال مدة اعتقالها وخاصة أحمد الذي تركته رضيعًا، وأصبح في عمر السبع سنوات، فقد كبر وتغير بعيدًا عن أحضان أمه التي تريد احتضانه بسرعة، فكل دقيقة تشعل نارًا جديدة في قلب الأم، لكن للاحتلال كلمة أخرى.
تقول: “كنت أسابق الوقت كي أرى أبنائي، وعندما وصلت حاجز بيت حانون منعني الاحتلال من دخول قطاع غزة، بقيت معتصمة هناك ثلاثة أيام ولم أقبل بالعودة لا إلى الضفة ولا إلى الداخل المحتل ولما تحوّل ما حدث إلى قضية رأي عام تركني الاحتلال أدخل القطاع”، حيث مارس الجيش الإسرائيلي سياسة تعذيبها نفسياً بعد إطلاق سراحها رافضاً عودتها الى قطاع غزة مرة أُخرى بعد 8 سنوت من الاعتقال.
وبعد السماح لها بالدخول نتيجة للضغط امتلأ قطاع غزة بالزغاريد والاحتفالات فرحًا في محفل شعبي للأسيرة المحررة التي احتضنت أطفالها فور دخولها لبيتها والذين حُرمت من رؤيتهم لسنوات بسبب المنع من الزيارة، ذكريات مرّة لا تَنسى لاتزال عالقة في ذهن الاسيرة المحررة “نسرين” تعيد تكرارها أكثر من مرة لزميلات لها ما زلن يتعرضن لذات الظروف.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”.