“البالة”.. ملاذ النازحات في شتاء الحرب
“البالة”.. ملاذ النازحات في شتاء الحرب
غزة- وردة الدريملي:
على مدخل سوقٍ شعبيٍ وسط مدينة غزة، تقف الطفلة إيلين رجب (10 أعوام) إلى جانب والدها تبيع الملابس المستعملة (البالة)، التي أصبحت مقصدًا للفلسطينيين خلال الحرب!
فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر /تشرين الأول 2023م، حُرم الصغار من حقّهم في التعليم وتلقّي الخدمات الأساسية، ما اضطر الكثير منهم للانخراط في سوق العمل، مثلما حدث مع إيلين، وزاد إقبال الناس على شراء ملابس البالة، بعدما أجبرهم جيش الاحتلال على النزوح تحت القصف دون حمل ملابسهم، ما يعدّ مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري للمدنيين.
تقول إيلين: “في الوقت هادا بكون بالمدرسة بروح مع صحباتي، بنتعلم وبنلعب، أجت الحرب وبطلت أروح على المدرسة، صرت أجي مع أبويا أبيع معاه ملابس البالة”.
مصطفى رجب (39 عامًا) والد إيلين، ينادي معلنًا عن بضاعته قائلًا: “أي قطعة حريمي رجالي على ثلاثة شيكل، الأطفال اثنين شيكل (أقل من دولار)”، وسرعان ما يتدافع الزبائن كبارًا وصغارًا مقبلين على بضاعته لشراء الملابس المستعملة (البالة).
يأتي البائع مصطفى من حي الزيتون شرق مدينة غزة، ليعرض بضاعته قرب مدخل سوق الصحابة وسط المدينة، يقول: “اختيار المكان المناسب يساعدني في بيع بضاعتي وعرض ما أقدّمه من ملابس مستعملة لمختلف الأعمار، وفي نهاية اليوم أحصل على مبلغٍ لا يتجاوز 150 شيكلًا (نحو 40$).
تتدخل إيلين بقولها: “نأتي منذ الصباح، يفرز أبي الملابس ويقسّمها أطفال، نساء، ورجال، ويعطيني مهمة ترتيب العلّاقات، ويبدأ هو بالبيع، وعند وقت الصلاة أو الطعام يأتي دوري لأفعل كما يفعل أبي، أعدّ القطع المشتراة وأحاسب عليها”، يُعجب والد إيلين بما تفعله صغيرته، فهو يعلّمها لتكون ذات شخصية قوية.
وعن بضاعته يقول: “الأسعار مناسبة ولا تتجاوز خمسة أو عشرة شواقل، مع المراعاة أيضًا من باب المسؤولية الاجتماعية بسبب ظروف الحرب، القِطع التي أبيعها جيدة وليست مهترئة، ومن لا يمتلك مالًا كافيًا أسامح فيما تبقّى”.
ويوضح أنه ليس تاجرًا بل يشتري من تجارٍ آخرين، مشيرًا إلى أن البضاعة التي يعرضها متوفرة منذ ما قبل الحرب “تجميد بضاعة”، لذلك يبيع بأسعارٍ رخيصة.
ويشير مصطلح الملابس البالية إلى شراء ملابس مستعملة وأحيانًا جديدة، وبيعها لأشخاصٍ آخرين، ليتم إعادة استخدامها مرة أخرى.
على طرف البسطة، تقف حنين محمد (34 عامًا) تنتقي ملابس بالة لأطفالها بعناية، فهي تهتم بجودة الملابس لتستمر معها فترة أطول، فالأسعار منخفضة مقارنة بتلك الموجودة في المحلات التجارية.
تقول: “لدي أربعة أبناء، أكبرهم (16 عامًا) وأصغرهم (3) سنوات، ومع دخول فصل الشتاء أطفالي بحاجةٍ لملابس وأنا نازحة في بيت أقاربي، أحاول توفير ما أمكن من متطلباتهم”، فالسيدة لم تحمل من ملابسها ما يكفي لسدّ حاجة أطفالها حين نزحت من بيتها بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
تكمل حنين: “أبحث طويلًا عن ملابس تلائم أطفالي، في النهاية أحصل على ملابس تكفيهم الشتاء كاملًا، وبسعرٍ مناسب، وتلبي الاحتياج في هذا الوقت الصعب”.
ويحل فصل الشتاء للمرة الثانية على سكان شمال قطاع غزة، ولا تزال الحرب مشتعلة تنهش أجساد النازحين الذين فقدوا الأمان مثلما فقدوا ملابسهم، فلجأوا للبدائل للاحتماء من برد الشتاء.
أما عبير بدر (47 عامًا)، والتي تعيش في مركز إيواء مع أبنائها الستة، بعدما نزحت من بيتها في حي الزيتون شرق مدينة غزة، دون حمل ما يكفي من الملابس لأبنائها.
تقول عبير: “ملابس البالة كانت طوق نجاةٍ لي منذ بداية الحرب، أحتاج لكسوة أولادي، خاصة في الشتاء حيث نحتاج الكثير من الملابس، فأجد في البالة ما يدفّيء أبنائي وبأسعارٍ زهيدة، حتى الملابس التي لا أجدها في المحلات، تكون موجودة في البالة، لدرجة أنني اخترت بعض القطع ووضعتها في جهاز ابنتي العروس التي تستعد لزفافها”.
فملابس الشتاء بالعموم مرتفعة الثمن كما تؤكد عبير، خاصة الشبابية، ولا قدرة لها حاليًا على دفع مثل هذه المبالغ، لكن البالة تنقذ كل شيء.
ويختلف حال آلاء أبو ندى (37) عامًا عن حنين وعبير، كونها لاتزال في بيتها في حي الدرج، تقول: “السعر مناسب جدًا، لا تتخطى القطعة ثلاثة شواكل (نحو دولار)، اشتريت ثلاث قطع شتوية لزوجي، في هذه الفترة هو بحاجة لملابس تقيه برد الشتاء”.
بصوتٍ منخفض تروي ندى إنها حين جاءت للسوق لم تكن تملك سوى شيكلًا واحدًا، همست في أذن جارتها حين أمسكت قطعة ملابس وتساءلت: “معقول يعطيني إياها بشيكل”، لتتدخل شابة فتدفع عني مبلغ تسعة شواقل”.
عودة إلى البائع مصطفى الذي يستدرك: “إقبال الناس على ملابس الشتاء أكثر من الصيف، وبما أننا في حرب ويعاني الناس من نزوحٍ وتشريد، يخرجون من بيوتهم بأجسادهم عنوة تحت القصف، يلجأون لشراء ملابس البالة”.
يكمل وهو يرتب بضاعته على البسطة: “تقبل النساء على شراء ملابس المواليد والأطفال ممن ولدوا في الحرب، ولا يملكون ملابس كافية لهم، وبحاجةٍ إلى تبديلٍ مستمر، فالأسعار في السوق مرتفعة، كما يقبلون أيضًا على شراء ملابس لكل الأعمار”.
وفي ظل ظروف الحرب التي حرمت الناس الكثير من البضائع، يقبل المواطنون على البالة أيضًا لشراء الأحذية والأدوات المنزلية، وتتنوع مسمياتها ما بين ملابس البالة، الملابس المستعملة، وملابس الماركات.
وبينما تتواصل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تبقى البالة خيارًا مناسبًا لمئات آلاف النازحين الذين أخرجوا من بيوتهم عنوةً دون حمل ثيابهم وأمتعتهم التي كانت ذات يوم رمزًا للحياة وأصبحت لحظة النزوح ثقيلة على أجسادٍ تئن تحت وطأة الفقر والعوز.