في المدرسة ! من ذاكرة الحربْ ..

تنزيل

غزة – CMC

كانت المرة الأولى التي أنام فيها بعيداً عن والديّ، أو في بناية منفصلة تماماً عنهما لمدة تزيد عن ليلة واحدة، لم تكن المسافة بعيدة، لكنّها المرة الأولى التي أشعر فيها بالاستقلال،لم أقل لأمي أعدّي لي وجبة الفطور أو غيرها على ما اعتدت في السنين الفائتة، وصرتُ أفطر بطريقتي الخاصة رغم أنّ الأكل في معظمه كان معلبّات من وكالة الغوث، حاولتُ أنْ أغسلَ ملابسي بنفسي، على أمل أني في أي لحظة يجب أن أكون مستعداً لذلك، إذا صحّت نبوءة السفر، مصليّة كانت مسجدي وسريري على بلاط المدرسة في غرفة مكيّفة وكيسُ ملابسي وسادة.

في المدرسة بتُّ أقرب ما كانَ لي من الناس، أتعرّف معاناتهم وأدوّن في مذكرتي آلامهم من سني الحصار والحروب المتواصلة، كنتُ سعيداً وأنا أخوض تجربتَهم وأخرج نفسي من قصرها العاجي، على مبدأ اخشوشنوا فإن النعمَ زوّالة وقد زالتْ في طرفةِ عينْ ! ولكنّ الذي كنتُ أفشلُ فيه دائما، خوض الصراع مع الناس على برميل الماء لآخذَ حصَّتي وأختصر الطريقَ وأشتري ما يلزمني من باعة مياه الشرب، وفي هذه لم أنجح، في المرّة الأولى إذا وصلني الدور كان الماء قد نفد، وفي الثانية باعني ماءً مالحة على أنها محلّاة وفي غيرها أفسحت المجال لآخرين بعدما مللتُ الوقوفَ تحت أعمدة الشمس الحارقة في تموز، كنت أعودُ فارغاً من كلِّ شيءٍ عدا بعض الشتائم التي علقت في سمعي والشجارات التي غضضت البصرَ عنها، كم من شجار نما بين الناس هناك، كم من شرطي ضربوه ؟ كم من رجلٍ وصل المستشفى ؟

في المدرسة لم يكن هناكَ شيئٌ أكثر من الأكل أقل من الماء، كُل ما شئتَ من الأطايبِ ثم كُل ولكن هيهاتَ أن تجدَ مكاناً تفرغُ فيه شحنة الطعام تلك ! ومن الناس إذا انتفخ بطنُ الواحد فيهم وامتلأت أوداجه بالدم، صار يسألُ إذنا من مدير المأوى في مدرسة الأونروا أن يفسح له مجالاً في أي غرفة للأمن كانت أم للحارس أو حتى غرفة المدير نفسه، لخمسِ دقائقَ قد تمتدُ لنصفِ ساعة يقضي فيها وطره !

عن رجلٍ،كانَ ذا مشيةِ معوجّة يميلُ في طريقه يساراً ويميناً، أعرج القدم معلول العمود الفقري، شيءٌ ما لا يحسن المشي، يقضي يومَه بحثاً عن زاوية أو مكانٍ يختلي فيه مع زوجته، لم ينجب طوال سني السلم، يحاول ألا يضيع الفرصة، كما قيل لا شيءَ أجملُ من الحُبِّ في زمنِ الحرب، على هذا المبدأ يمضي عسى أن تقرَّ عينه في هاتِ الخلوة بولدٍ أو بنتٍ تروي فيه عاطفة الأبوّة .

عن آخر، يقفُ في ساحة المدرسة، يشيد بالمقاومة ويمدح رجالَها مفتخراً بإنجازاتهم مكبراً بالله بين الكلمة والأخرى حامداً له، ثم يلهث خلف طابور المساعدات، ويتسلل شيئاً فشيئاً إلى الأدوار الأولى غير مكترث لمن هم قبله، حتى إذا نشب الشجار بينه وبين آخر لم يسمح له بتجاوزه، تدخّل الأمن، وكي يضعف سطوة الأمن أخذ يكيل لهم الاتهامات، عن واحدٍ منهم لا يبرح الساحة من أمام صبية يتبادل معها النظرات والكلمات، حتى إذا فُتِحَ تحقيق جادٌ بالأمر تهرّبَ ومنه ولم يحضرْ، كان فيلسوفَ زمانه، لكنّه أسقط نفسه من تلك التكبيرات والمدائح وكشف أفعاله من وقوفه الدائم في ساحة المدرسة.

حتى هذه اللحظة في المدرسة لا يبتعد كثيراً عنكَ صوتُ الشجارات، لا تعرف من يتقاتل مع من، حتى إذا دققت في الأمر وخمّنت من هم المتقاتلين، أتحدّاكَ أن تعرفَ سبباً للمشاجرة !

في المدرسة، تعمل الوكالة على تشغيل المولدّات من الساعة السابعة مساءً حتى الحادية عشر مساءً، هذا لا يعجب أحداً، من الناس من يريده في الصباح كي يشحن بطاريات الجوال والراديو لا يصبرون إلى المساء ولا يعرفون شحنَه بالليل!، وغيرهم كان يريد من الموّلد أن يعمل من ساعات المغرب حتى الفجر، وهذا ما لا تستطيعه المولّدات ولا تغطيه كمية الوقود الشحيحة، الإدارة في حيرة من أمرها، في مثل هذه الساعة أي قبل الثامنة مساء ب10 دقائق، بدا أن صوت الشجار نابع من هذه المشكلة ! ثمة من يريد إطفاءه في هذه الساعة وثمة من يقول لا ! لا يتفقون في هذا ولكنّهم متفقين أن الشجار أسهل الطرق للحلْ ..

بتُّ أفكر في مشروعي الصغير بالمنزل، ماذا لو أصابته قذيفة؟ هل سأعلن الإفلاس والحداد على ثلاثة أعوام من العمل؟ لم أكن أخشى القذيفة التي ستضربه بالقدر الذي كنتُ أخشى فيه اللصوص والمتطفلين.

هؤلاء الأطفال يعجبونني، يتجاهلون ببلادة رهيبة كلَّ هذه الضجة ولا يكفّون عن لعب الكرة في الساحة أو في الممرات بين الفصول، ثم إنهم لا ترهبهم صيحات النساء إذا ما لوثّت كراتهم الملابس المنشورة على أسوار المدرسة .

ثمة أمرٌ في ساحة المدرسة، أنّ الناس صارت تفكّر في أسباب الحرب ونتائجها على غير العادة، ويختلفون إذا صحّ القول بأن هذا انتصار للمقاومة وهزيمة للشعب الذي يرقد منه على أسرة الموتِ في المستشفيات 10 آلاف جريح، معظمهم يعاني من إعاقة دائمة بعد بتر يدٍ أو ساق أو كليهما، قد ارتاح من مات أو استشهد ولكن الذينَ عاشوا يذوقون مرارة الحرب في أكثر من موضع، الأول في أيام الانتظار الطويلة حتى يتمكنّوا من العثور على جثمانه المتحلل تحت الأنقاض، والثاني في جنازة الدفن دون التوديع أو الصلاة عليه، والثالثة من هوة الفقد العميقة والذكريات .

وبين الانتصار أو الهزيمة، تصغر طموحاتِ الناس، كانَ الواحد منهم لا يشبع، يريدُ بيتاً ونافذة تطل على بيت جاره، والأرض التي تجاور جارَه، ثم إذا طُلِبتْ منه مساعدة أو أساءَ أحدٌ إليه أرادَ أن يحرق الأرضَ ومن عليها، غير أن هذا الأخير في موضع كهذا، باتَ يتمنى خيمة على أنقاضِ بيته، ولو تقاسمها مع جاره المسكين.

مع ذلك نحنُ شعبٌ لا يتعلم، متأصلة فينا طبائع البشر الأوائل، لم تؤثر فينا الحضارة ولم تتقدم بنا العلوم، تسوقنا الهمجية من كلِّ حدبٍ وصوب إلى غوغائية لم يتصف بها الهكسوس أو المغول، هوجاءٌ .

للتو ذهبتُ لاستلام كابونة الخبز، على الرقم 51، لمّا وجدتُ الناسَ يزاحمون بعضَهم على الدور، فكّرت بالعودة لاحقاً، ثم قررت مخافة ألا أجدَ خبزاً أن أخوض غمار هذا الزحام، ورغم أنَّ أخي هو المشرف على التوزيع، التزمتُ الدور ولا أدري كيف تسهّلت أموري عندما عرفني أحدُ الموزعين، زادني ربطة من الخبز على العدد المكتوب، رفضتُها وقلتُ إنها قد تَفْسَدْ وهناك من هم أحوج إليها منا، كانَ متطوعاً مقابلَ ربطة خبز ومجموعة معلبّات إضافية على كابونته ولا أدري السبب الذي دفعه للزيادة على العدد المكتوبْ، ثم أن يكونَ لكَ أخٌ من موظفي الأونروا يعني أنّ يكون وزملاؤه مستعدينَ لتفتيش ملابسِهم الداخلية في أي لحظة من أعينِ الناسْ والله الغني ..

في المدرسة تتعاقب الروائح كتعاقب الأزمنة والحروب، مع علاقة طردية لكل مكان، في الممرات ينغمس الهواء الساخن ببقايا اللحم العالق في المعلبّات مع رائحة مواد التنظيف، وعبق الساحة من الماء الراكد بكل ما هو قذر .

الرابط المختصر : http://ywjournalists.org/ar/?p=251

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى