نزوح تل السلطان الذي لن يزول من ذاكرة أم بلال أبدًا

نزوح تل السلطان الذي لن يزول من ذاكرة أم بلال أبدًا

خانيونس- دعاء برهوم:

“كأنها أهوال يوم القيامة، الجميع يهرول مسرعًا للنجاة دون الالتفات حولهم، الدبابات تحاصر المكان من المناطق الشمالية، وتطلق القنابل فوق رؤوسنا، وطائرات الكوادر كابتر تطلق الرصاص علينا، نستلقي على الأرض، ننطق الشهادتين، وحين تهدأ ننهض ونواصل الركض”.

بهذه الكلمات وصفت الستينية انصاف البليشي، ما حدث معها، حين أُجبرت على النزوح مجددًا من بيتها، بعدما عادت إليه مدة شهرين، لكن هذا النزوح حمل معه مشاهد جرائم لن تُمحى من ذاكرة السيدة، أبدًا.

في تفاصيل حكاية أم بلال، التي كانت تسكن في حي تل السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، فقد نزحت من بيتها في مايو 2024م، حين أجبر الاحتلال الإسرائيلي سكّان رفح على ذلك، وانتقلت إلى خيمةٍ في منطقة مواصي خانيونس جنوب القطاع.

ظلّت أم بلال هناك حتى دخل اتفاق الهدنة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال حيز التنفيذ في 19 يناير 2025م، فعادت إلى بيتها، حاولت لملمة جراح قلبها حين عادت إلى بيتها في تل السلطان مدّة شهرين، رغم أنه لا يصلح للسكن، لكن انقلاب الاحتلال على الهدنة بشكلٍ مفاجئ جعلها تعيش تلك التجربة الصادمة.

تهطل الدموع من عينيها وهي تجلس على باب خيمةٍ تركها أصاحبها لمن تتقطع بهم السبل، وتروي: “الساعة 11 مساءً بدأت الرافعة التي نصبها جيش الاحتلال على مقربة من محور فيلادلفي بإطلاق النار بشكلٍ كثيف، وإطلاق قنابل إنارة، اعتقدنا أنه أمرٌ عابر، لكن استمر ذلك حتى الفجر، اشتد إطلاق الطائرات للصواريخ ونحن لا نعلم أين تسقط، وماذا يجري في الخارج، فقط نسمع أصوات انفجارات”.

عاشت أم بلال وعائلتها في ظلامٍ دامس، لا كهرباء ولا انترنت ولا حتى صوت همس طيلة الليل حتى الفجر، حيث ألقت الطائرات مناشير تطالب بإخلاء الحي حتى الساعة 11 صباحًا، محددين طريق الخروج من مكان مستعمرة غوش قطيف سابقًا (غرب المدينة).

حالةٌ من الإرباك أصابت العائلة، ماذا يحملون معهم؟ كيف يتركوا كل أمتعتهم خلفهم بعدما استقرت حياتهم رغم الدمار؟ كيف ستكون الطريق؟ بذعرٍ يتساءلون.

تكمل: “وضعنا بعض الملابس في حقائبنا، سمعنا أن الاحتلال سينفذ عملية مدّتها 36 ساعة منذ 23 مارس 2025م فقط، ولم نعلم أنه مخطط لاحتلال رفح بالكامل بعد أيامٍ من مهاجمة المنطقة الغربية”.

تسند ظهرها إلى عمود الخيمة بيأسٍ وكأن قواها خارت، وتكمل: “الساعة 9 صباحًا كل الحارة بدأت بالنزوح مشيًا على الأقدام، ثلاث ساعات سلكنا خلالها طرقًا وعرة، وأراضي زراعية وسط الرعب، حتى وصلنا مواصي خانيونس”.

تتنهد وتكمل: “وكأنها أهوال يوم القيامة، الكل يحاول النجاة، شهدت قصصًا تعيدنا إلى ذكريات نكبة 1948م، شاهدت أناسًا ألقوا أمتعتهم من شدّة التعب وأكملوا الطريق للنجاة بأرواحهم، شاهدت طائرة تطلق الرصاص على شابٍ كان يحمل أنبوبة غاز على كتفه، فانفجرت وسقط شهيدًا، شاهدت عشرات الإصابات لأشخاص سقطوا على الأرض، والألم المرافق لكبار السن وذوي إعاقة وهو يقطعون كل هذه الطريق، فالإسعافات بعيدة والمكان خطير”.

استقرت عائلة أم بلال في خيمةِ عائلةٍ تركت خيمتها لمن تقطّعت بهم السبل، وهناك بدأت من الصفر رحلة البحث عن ملابس وفراش وأغطية لعائلتها المكوّنة من 6 أفراد، إضافة إلى أدوات منزلية، فالأسعار باهظة وهي لن تستطيع شراء شيء.

توقد السيدة النار ببعض قطع الكرتون والأخشاب من أجل إعداد كأس من الشاي، تشربه بعد تناولها الدواء الخاص بها، كي تقوى على مواجهة ما تعيشه من ظروفٍ فرضتها الحرب من تعبئة جالونات المياه تارة، والاصطفاف في طابور التكية تارة أخرى.

ويخالف ما تعرضت له عائلة أم بلال بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر التهجير القسري للمدنيين، ونصت في مادتها (16) على أن يكون الجرحى والمرضى والعجزة موضع احترام خاص، كما أكدت المادة (17) وجوب نقل الجرحى والمرضى والعجزة والنساء والأطفال من المناطق المطوقة والمحاصرة.

تنهمر الدموع من عيني السيدة وهي تستذكر بيتها: “هو بيتي حتى وهو مدمر، كانت سيارة الميا (المياه) تقف على الباب، اليوم ننتظرها ساعات وأحيانًا لا تكون صالحة للشرب”.

وتختم: “لا يمكن نسيان ما عشته في هذا النزوح أبدًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى