الدفاع المدني… مطاردة النار بأيدٍ عارية

الدفاع المدني… مطاردة النار بأيدٍ عارية

خانيونس- بسمة أبو ناصر:

بينما كانت ألسنةُ النارِ تلتهم خيمة الصحافيين التي قصفتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي يوم 18 إبريل 2025م، كان أسعد السقا أحد عناصر الدفاع المدني الفلسطيني، يركض محاولًا الوصول إليها، شاهد شابًّا يحترق على كرسيه المتحرك، ولم يستطع إنقاذه.

“كان المشهدُ فوق قدرتي على الاحتمال، لم نملكُ ماءً كافيًا، ولا مركبة جاهزة للوصول فورًا، وقفنا نصرخ في العجز، بينما النيران تبتلع الشاب”، يقول السقا بصوتٍ مخنوق.

هذه الحادثة ليست استثناءً، بل هي جزءٌ من يوميات عناصر الدفاع المدني في قطاع غزة، يقاتلون النيران بأدواتٍ شبه معدومة، “كل سيارة تحتوي على كميةِ مياهٍ لا تكفي إلا لعدّة دقائق من الإطفاء”، يضيف السقا.

منذ شن الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023م، يعاني عناصر الدفاع المدني خلال عملهم من الانتهاكات الإسرائيلية والاستهداف المباشر، ما يجعل مهنتهم الإنسانية تماسًّا مباشرًا مع الموت، لكن أقسى ما يثقل صدورهم، هو صعوبة توفير المياه اللازمة لإطفاء الحرائق التي تندلع بسبب القصف الإسرائيلي للمباني والمنشآت، ما يعطّل إنقاذ المصابين.

أمام الحرائق الكبرى، يصبح البحث عن مصادر بديلة للمياه تحديًا يوميًا، “ننسق مع الأهالي الذين لديهم آبار أو غواطس، نستجدي أي قطرة ماء قد تنقذ بيتًا أو روحًا”، يوضح السقا.

ورغم هذه الظروف، يرى السقا أن عمل الدفاع المدني يتجاوز الوظيفة العادية قائلًا: “إنه واجب إنساني وديني ووطني، لا نملك ترف الانتظار أو الاختباء، كل صرخة استغاثة تصلنا هي حياة نحتاج إلى حمايتها”.

ومع التضامن الشعبي الواسع معهم، إلا أن نقص الوقود والمركبات بات يهدد قدرتهم على الاستمرار، “السيارات تتعطل ونحن في الطريق، فنكمل سيرًا على الأقدام نحمل المعدات الثقيلة على أكتافِنا”، يروي السقا، مشددًا على أن كل دقيقة تأخير تساوي حياة قد تُفقد تحت الركام.

من جهته، يروي إبراهيم أبو ريش، أحد عناصر الدفاع المدني في محافظة غزة، معاناة أخرى يومية مع شح المياه، “أحيانًا، نصل إلى موقع الحريق، ونجد أن الخزان شبه فارغ، نضطر للعودة إلى المركز لإعادة التزود أو نطلب سيارة أخرى، مما يؤدي إلى تأخرٍ كبير في السيطرة على النيران”، يقول أبو ريش.

ويؤكد أن زمن الاستجابة هو عامل حاسم: “بدل أن نسيطر على الحريق خلال 20 دقيقة، قد نحتاج إلى 50 دقيقة أو أكثر بسبب ضعف الإمكانيات الضعيفة التي نعمل بها”.

يصف أبو ريش الحالة النفسية للطواقم بأنها تتأرجح بين الإحباط والغضب، لكنها لا تمنعهم من أداء واجبهم، “كل واحد منا يدرك أن تأخيره أو فشله قد يعني موت أبرياء، هذا الشعور وحده يكفي لدفعنا لمواصلة العمل مهما كانت المخاطر”.

ويلفت أبو ريش إلى أن الطواقم تضطر أحيانًا لمناشدة البلدية أو وزارة الأشغال العامة لتوفير صهاريج مياه إضافية، لكن سرعة الاستجابة ليست دائمًا على قدر الحاجة.

“في لحظات الحرائق الكبرى، كل ثانية تصنع الفارق بين إنقاذ أرواح وفقدانها”، يضيف، محذرًا من أن استمرار نقص الوقود والمياه قد يؤدي إلى توقف عمل الدفاع المدني بشكل شبه كامل في الأيام القادمة.

أما محمد المغير، مدير الإمدادات في الدفاع المدني، فيفتح الستار عن صورة قاتمة للوضع اللوجستي داخل الطواقم.

“تعتمد فرقنا بشكل رئيسي على الآبار المحلية، وبعض خطوط المياه الإسرائيلية التي تُقطع فور اندلاع التصعيد، دون هذه المصادر، نصبح مشلولين بالكامل”، يشرح المغير.

في ساعات الليل، مع انقطاع الكهرباء، تصبح المهمة أكثر تعقيدًا، “الخزانات تُفرغ لصالح النازحين، فلا نجد ماءً لاستخدامه في الإطفاء، ونبقى عالقين بين خيارين: الانتظار أو المحاولة بأدوات شبه بدائية”.

يتحدث المغير بألمٍ خاص عن حادثة مدرسة أحمد بن عبد العزيز في خانيونس: “تلقينا بلاغًا بوجود أطفال ونساء عالقين وسط النيران، انطلقنا فورًا، لكن نفاد الوقود حال دون وصولنا سريعًا، كنا نسمع صرخاتهم عبر أجهزة الاتصال ونشعر بتمزق أرواحنا ونحن عاجزون عن الوصول إليهم”.

يتوقف المغير لحظة قبل أن يضيف: “أسوأ شعور في الدنيا أن تعرف أن بإمكانك إنقاذ إنسان ولا تستطيع بسبب نقص الإمكانيات”.

ولا تقف معاناة طواقم الدفاع المدني عند نقص المعدّات والمياه؛ بل تصل إلى حدِ الاستهداف المباشر خلال عملهم، يقول المغيّر: “طواقمنا فقدت عددًا من أفرادها خلال محاولات الإنقاذ، حتى التنك الوحيد الذي كنّا نستخدمه تم قصفه”.

الرسالة التي يحملها عناصر الدفاع المدني، كما ينقلها المغير، لا تحمل سوى طلبٍ واحد:” ما نحتاجه ليس كثيرًا: ماء، وقود، معدات حماية، ومركبات تنقلنا إلى مواقع الاستهداف بسرعة”.

ويخالف ما يعانيه عناصر الدفاع المدني من نقصٍ في المعدات، اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (61) على أن تعمل جميع الأطراف المتعاقدة على السماح بمرور رسالات الإغاثة عبر أراضيها ونقلها مجانا في طريقها إلى الأراضي المحتلة.

ورغم كل التحديات، لا تزال طواقم الدفاع المدني تركض نحو ألسنة النار كل يوم، بأيدٍ عارية وقلوب لا تزال تؤمن بأن إنقاذ حياة واحدة قد يضيء وسط هذا الظلام.

يختم المغير برسالة الدفاع المدني في غزة قائلا: “دعونا نؤدي عملنا، لسنا طرفًا في هذه الحرب، كل ما نطلبه هو السماح لنا بإنقاذ البشر، نحتاج إلى ماء، وقود، ومعدات.. لا أكثر”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى