الجوع يضرب رأس عائشة مجددًا ..”تعبنا من كل شيء”

الجوع يضرب رأس عائشة مجددًا ..”تعبنا من كل شيء”

غزة – روز شراب:

الجوع يقتل أيضًا، كما الرصاص تمامًا، ربما تقتلك الرصاصة مرة واحدة، لكن الجوع قتلٌ يومي”.

بهذه الكلمات، بدأت السيدة عائشة الدسوقي (58 عامًا) حديثها واصفة تجدد معاناتها مع شبح المجاعة الذي ضرب قطاع غزة منذ مطلع مارس 2025م، بعدما اعتقدت أن هذه المأساة ولّت إلى غيرِ رجعة، ثم تشير إلى زوايا خيمة قماشية تعيش فيها مع أسرتها المكوّنة من (11) فردًا، وتكمل: “لم يكتفِ الاحتلال بفرض التجويع علينا، بل دمّر بيتنا ولم يترك لنا أي شيء جميل”.

عائشة الدسوقي، هي سيدة كانت تسكن حي الزيتون شرق مدينة غزة، عندما شن الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، وأجبر سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه، صمدت عائلة عائشة خمسة شهور وهي تعيش أمام ركام منزلها المدمّر، وسرعان ما أُجبروا على النزوح إلى الجنوب بعدما ضربت المجاعة أمعاءهم الخاوية.

تتنهد عائشة وهي تتناول طعامًا حصلت عليه من تكية مخيم النازحين الذي تقطنه غرب مدينة غزة، وتقول: كانت التكيه ملاذًا للجائعين، وفسحةُ أملٍ يوميةٍ لآلاف العائلات التي فقدت كل شيء، رغيف الخبز وكرامة الانتظار، نقف في طوابير أمام التكية لساعات، لنحصل على وجبةِ طعامٍ واحدة يجب أن تكفينا ليومٍ طويل، بل أحيانًا لا نحصل على شيء، كل طعامنا هو معلبات من الفاصولياء والبازيلاء أو العدس”.

تستهجن السيدة التي تعاني من الضغط والسكر والقلب، عدم وجود أي نوعٍ من الطعام يمكن أن يقوّي جسم الإنسان، فمثلها من أصحاب الأمراض المزمنة تسبب سوء التغذية في تدهور وضعها الصحي، تعقّب: “السوق فارغ من الخضار، لا يوجد شيء نشتريه، وإن وُجد فسعره مرتفع جدًا، أفقدونا الطعام وأفقدونا إنسانيتنا، كأننا بدائيون نبحث فقط عما يسدّ جوعنا”.

تتنهد السيدة وهي تستذكر معاناتها مع المجاعة التي ضربت شمال قطاع غزة في المرحلة الأولى من الحرب، حين رفضت النزوح من الشمال، ونزحت عدّة مرات داخل مدينة غزة، تقول: “عانينا من الجوع ونقص المياه، لجأنا إلى منزل عائلةٍ مدمّر جزئيًا، تقاسمناه مع القطط والكلاب، كانت الأسواق شبه خالية من المواد الغذائية بسبب الحصار، اضطررنا لطهي الأعشاب لنأكل”.

حين اجتاح الاحتلال حي الزيتون في مارس 2024م، تعرّضت عائشة وعائلتها لقصفٍ مدفعي طال، اضطروا للاختباء في غرفةٍ صغيرة وسط دمارٍ شبه كاملٍ للحي، عاشوا متنقلين بين الحي ومستشفى الشفاء متمسكين بما تبقّى من أملٍ، حتى جاءهم أمر إخلاءٍ للبيت، خرجوا تاركين خلفهم كل شيء، فقصف البيت على ما فيه.

لما اشتدت المجاعة أُجبرت على النزوح مع عائلتها مشيًا على الأقدام عبر شارع الرشيد (شارع البحر)، غرب مدينة غزة.

تضع يدها على قلبِها كالمرعوبة وكأن الحدث يُعاد أمامها: “كان يوم 23 مارس 2024م، منتصف شهر رمضان، أوقفنا جنود الاحتلال على الحاجز وفتشونا، صادروا ممتلكاتنا، ألقوا الكرسي المتحرك الخاص بزوجي في البحر، أجبروا زوجي رغم إصابته على المشي”.

نزحت عائشة وعائلتها إلى خيمةٍ صغيرة في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، لم تكن تتسع لكل هذا العدد، عانوا جميعًا من الحر صيفًا، والبرد شتاءً، ومأساة انعدام الخصوصية ومعها كل مقومات الحياة وارتفاع أسعار الغذاء والدواء بشكلٍ جنوني، حتى أنهم أجبروا على الاعتماد على طعام التكيات الذي لا يتعدى البقوليات.

مع دخول الهدنة التي وقتها الفصائل الفلسطينية مع الاحتلال حيز التنفيذ يوم 19 يناير 2025م، عادت عائشة وعائلتها إلى مدينة غزة، تكمل: “واجهنا صعوبةٌ في إيجادِ وسيلةِ نقلٍ تحملنا من خانيونس إلى مدينة غزة، وتكبّدنا مبالغ كبيرة، ولما وصلنا صُدمنا بمشاهد الدمار وكأن نكبة 1948م تعود من جديد، أنشأنا خيمة لتعيش فيها العائلة كلها”.

مع خرق الاحتلال الإسرائيلي للهدنة في منتصف مارس 2025م، وإغلاقه لمعابر قطاع غزة، عادت مجددًا الأسعار للارتفاع الجنونين وفرغ السوق من الخضراوات، لتطّل المجاعة بوجهها من جديد، وتنفخ سمّها في وجه عائشة.

تقول: “مجددًا نعيش على المعلّبات التي تصلح لتقوية الأجساد، فقدان تام للغذاء والدواء، الجوع قتل أرواحنا وكرماتنا قبل أجسادنا”.

ويخالف ما تعرّضت له عائلة عائشة بنود اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (59) التي تنص على ضرورة أن تسمح دولة الاحتلال بعمليات الإغاثة للسكان وتسهيل مرور رسالات الأغذية والامدادات الطبية والملابس، كما كفلت في مادتها (16) حماية خاصة للمرضى والعجزة والحوامل.

وتؤكد عائشة إنها سترحل لو سنحت لها فرصة للهجرة بعدما فقدت كل شيء، ولم تعد قادرة على احتمال هذه الحياة غير الآدمية، فأمل العودة إلى حياةٍ طبيعيةٍ بات مستحيلًا في ظل تواطؤ دولي سمح للاحتلال بتجويع أهل غزة مرارًا.

تتنهّد عائشة وتختم: “تعبنا من البحث اليومي عن الطعام، تعبنا من حياة الخيام، تعبنا من انعدام الخصوصية، تعبنا من كل شيء حولنا”.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى