داخل خيمة (روند) غرق ودموع
داخل خيمة (روند) غرق ودموع
خان يونس_ دعاء برهوم
ما إن بدأت الأمطار بالهطول بعد تلك الليلة من أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024م، حتى ركضت الشابة روند الخليلي (35 عامًا) لحملِ دلاءٍ وأواني فارغة، ووضعها أسفل فتحات خيمتها علّها تحمي أمتعتها من الغرق؛ لكن دون جدوى!
“منذ أن حلّ الخريف ونحنُ ندعو الله ألا نرى مطرًا ولا رياحًا، معاناتنا كنازحين تتضاعف، فالخيام التي نعيش فيها أغلبها من الأقمشة التي اهترأت بسبب حرارة الصيف، ولم تعد صالحة للشتاء”، تقول روند بغضب.
تعيش روند (أمٌ لستة أطفال) داخل خيمةٍ قماشيةٍ مهترئةٍ في مخيم للنازحين، غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، على رمال، دون شادرٍ يمنع تدفق مياه الأمطار إلى خيمتها، فوضعها الاقتصادي السيء، وتكرار عمليات النزوح، حرمها فرصة ترميم خيمتها.
كانت روند تعيش مع أطفالها داخل بيتها في قرية المغراقة جنوب مدينة غزة، تتجهز عادة للشتاء بالمشروبات الدافئة، وتحاول صنعَ أجواءٍ عائليةٍ جميلة، لكن تغير الحال.
يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2024م، شن الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة، وأجبر أكثر من مليون ونصف مليون فلسطينية وفلسطيني على النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، في مخالفةٍ لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري للمدنيين.
تقول روند: “نزحت مع أبنائي رفقة عمهم عدة مرات حتى وصلنا هنا، ليس لدي معيل، أتحمّل مسؤولية صغاري وحدي، زوجي محمد هاجر إلى ليبيا قبل عدة سنوات بحثًا عن عمل، وبقيت أصارع الحياة دون كتفٍ أستند عليه”.
في شتاء عام 2023م، كانت روند نازحة في مركز إيواءٍ في إحدى المدارس، ولم تتضرر من المطر، لكن تبدّل الحال مع نزوحها إلى خيمة، لا تصلح لمواجهة الرياح ولا الأمطار.
تتنهد وهي تشير إلى فراشهم الذي ابتلّ وتكمل: “عندما سمعت بأخبار المنخفض بكيت، فقد ضاقت بي السبل، وخيمتي لم تحظ بأي ترميم أو تثبيت، الرياح القوية قبل المطر مزقت البطانيات، وأوقعت الخشب فوق طفلتي (لما)، وعندما حل الليل بدأت الأمطار بالهطول، استفاق صغاري من نومهم والمطر فوق رؤوسهم، وضعت الدلاء الفارغة وبعض الأواني البلاستيكية، كي تقينا تسرب المياه إلى الفراش، لكن الأمطار بللت جميع أمتعتنا”.
يرتجف أطفال روند من البرد الشديد خاصة في المساء، ما تسبب في مرضهم مذ حلّ فصل الخريف، تقول: “نعيش في العراء بلا بابٍ للخيمة يمنع دخول الرياح، ولا سقفٍ يحمي من البلل والبرد”.
وحسب جهاز الدفاع المدني فقد تعرضت أكثر من عشرة آلاف خيمة للغرق، جراء الأمطار الغزيرة التي هطلت في ذلك ليوم من أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024م.
معاناة أخرى ترويها روند بسبب عدم توفر حمام خاص للخيمة إذ يتعبها التفكير بكيفية الاستحمام، وعدم القدرة على استخدام دورات المياه المختلطة، وفقدان الخصوصية بسبب التصاق الخيام ببعضها.
تدخل من باب الخيمة على استحياءٍ طفلتها جنى (9 سنوات)، تحمل بين ذراعيها وعاءً بداخله طعام “معكرونة” من إحدى التكيات، تقول: “بحاول أخفف عن ماما، وأساعدها بتعبئة جالون المياه يوميًا، والحصول على الطعام من التكية، لأنه الوضع صعب جدًا”.
تضع جنى يديها الصغيرتين ببعضهما لعلها تحصل على شيءٍ من الدفء، وهي تشرح ما حل بهم عند هطول الأمطار، وتبلل ملابسهم، وانتشار مرض “الانفلونزا” بينهم بسبب البرد القارس، ولم يعد أمامهم إلا اللجوء للخيام الملتصقة بهم عند أي منخفض جوي.
تقول: “في ساعات الصباح الأولى أذهب إلى مركزٍ لتحفيظ القرآن في المخيم، لتنشيط ذاكرتي، لعدم تمكن أمي من تسجيلي بالمدرسة التي فتحت أبوابها للنازحين برسوم، أنا وإخوتي نريد الذهاب لكن لا نملك المال”.
تقاطعها روند: “لولا بناتي لمُتنا جوعًا، يذهبن يوميًا للبحث عن حطب وأوراق شجر لإشعال النار وتسخين الطعام، في عدة مرات تغلق التكيات بسبب شح المواد الغذائية ولا أستطيع توفير لقمة العيش لأبنائي، ناهيك عن المجاعة التي حلت بالجنوب وعدم توفر الدقيق، طفلتي لما (عامان ونصف) لا تعرف معنى الجوع، كل يوم أبحث لها عن خبزٍ كي تتوقف عن البكاء”.
وتنص المادة (55) من اتفاقية جنيف الرابعة على تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية، وأنه من واجب دولة الاحتلال استيراد ما يلزم من أغذية مهمات طبية، ويجب على الهيئات الإنسانية غير المتحيزة مثل الصليب الأحمر إرسال الأغذية والملابس حسب المادة (59) من الاتفاقية ذاتها.
تختم: “تواصلت مع عدد من المبادرين، وناشدت الجمعيات الخيرية بأن يصلحوا خيمتي وينشئوا لي مرحاضًا، لكن دون جدوى، فآلاف النازحين يعيشون ذات الظروف التي أحياها وسط هذه الكارثة”.