من متجر للمطرزات التراثية إلى مقلى للفلافل الشعبية
راوية تتحدى الإعاقة وتواجه قسوة الحرب والنزوح أملا في النجاة
دير البلح – خديجة مطر: بصعوبةٍ تضغط السيدة راوية عيّاد (48 عامًا) يدها اليمنى المصابة ببتر الأصابع على مقبض مصفاة لتُخرج أقراص الفلافل التي تصنع بها (الفراشيح) للزبائن، بينما تخفي خلف ابتسامتها قصة قهرٍ أصابتها نتيجة نزوحها من غزة، وخسارتها لبيتها ومشروع عمرها الذي كافحت من أجله 20 عامًا!
تفرد أقراص الفلافل داخل لفّة من الخبز المرقق، ثم تبيع زبائنها تباعًا وهي تروي: “كان عليّ أنا وزوجي تحدّي ظروفنا الصعبة كي نكمل حياتنا، أكثر إشي محسسني بالقهر خسارتي لمشروع عمري ” “راوية للمطرزات والإكسسوارات”-اللي تعبت عليه 20 سنة، وخسرت معه ميداليات حصلت عليها من مسابقات شاركت فيها”.
في تفاصيل الحكاية، فقد نزحت راوية منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، ثلاث مرات برفقة عائلتها، حتى استقرّ بها الحال في محافظة دير البلح وسط قطاع غزة، داخل مخزن كان مخصصًا كورشة حدادة، فيه تعيش وتمارس مهنتها الجديدة “بيع فراشيح الفلافل”.
يوم 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، قررت عائلة راوية النزوح إلى الجنوب سيرًا على الأقدام من منزلها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة حتى الجنوب، وعلى مدار خمس ساعات كانت شاهدة على دمار شامل لحق بالمباني والبنية التحتية بينما تحوم طائرات الكوادر كابتر بوق رؤوسهم، حالفهم الحظ بشاحنة نقل مواشي أقّلتهم إلى الجنوب، لكن طائرة حربية أطلقت صاروخًا صوب شاحنةٍ مجاورة، لتتناثر أشلاء ركّابها، وتكون راوية وعائلتها شهودًا على مجزرة بشعة، ناهيك عن الجثث المتحللة على الطرقات.
تكمل: “بعد النزوح علمت أن مشروعي “راوية للمطرزات والاكسسوارات”، الذي كافحت من أجله 20 عامًا، أصبح ركامًا، لم أحمل بيدي سوى حقيبة داخلها بعض قطع الملابس، وخرجت لا أملك سوى 30 شيكلًا”.
كانت راوية تجيد فن التطريز، وتمتلك متجرًا لبيع المطرزات والاكسسوارات كان هو مصدر دخل عائلتها، تقول: “مثّلت فلسطين في معارض محلية ودولية، مشغولاتي اليدوية لاقت إعجاب الناس وشجعوني أستمر، اليوم كله أصبح ذكرى”.
وتنص المادة (11) من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على ضرورة أن تتعهد الدول الأطراف بمسئولياتها الواردة في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان باتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في أماكن تتسم بالخطورة.
عندما كانت راوية صغيرة، أصيبت ببتر في أصابع يدها أثناء عملها على ماكينة لطحن الفلافل، لكنها أصرّت عندما كبرت على تحدّي هذا الواقع الصعب، بعدما تخرجت من تخصص الخدمة الاجتماعية، افتتحت مشروعها الخاص بالتطريز، والذي كان شاقًا بالنسبة لها كونه يعتمد بشكلٍ أساسي على اليدين في إنتاج المطرزات.
كانت راوية تحترف الرياضة أيضًا، وشاركت في بطولات لذوي الإعاقة، وعملت نائبة لرئيس الاتحاد العام لذوي الإعاقة، توضح: “لكن منذ بداية العدوان الإسرائيلي عانيت أوضاعًا قاسية لأتمكن من توفير لقمة العيش من خلال مشروعٍ جديد كي أنجو أنا وزوجي من المجاعة”.
تسرح بنظرها وتستطرد: “أصعب إشي في الحرب النزوح المفاجئ، ما في قدامنا خَيار إلا النجاة بأرواحنا، تركنا كل إشي وطلعنا”.
ويخالف ما تعرّضت له راوية وعائلتها نصوص اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، خاصة المادة (49) التي تحظر النقل الجبري الفردي أو الجماعي للمدنيين.
عن مشروعها الجديد تقول: “بدأته برطل من الدقيق وآخر من الحمص بعد إغلاق المخابز، صنعت فراشيح الفلافل، وأقبل عليه الزبائن، سرعان ما تطوّر ليصبح مصدر دخل لأربع عائلات أخرى بينهن ثلاث سيدات معيلات لأسرهن”.
تبتسم راوية وهي تقف أمام موقد النار برفقة زوجها رائد حسن الذي كان يتصبب عرقًا وهو يساعدها في لف (فراشيح الفلافل)، معقّبةً: “الفلافل هو إرث الأجداد، مهما تغيّرت ظروفنا بناكل فلافل”.
بينما يضيف زوجها رائد (53 عامًا): “نعمل أنا وراوية كأننا خلية نحل، يبدأ نهاري في الرابعة فجرًا، بطحن عجينة الفلافل بماكينة يدوية قديمة لأكثر من ساعتين، في ظل عدم وجود كهرباء، فقطاع غزة يعاني انقطاع الكهرباء منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم أبدأ بتجهيز العجينة لصنع الفراشيح والسلطات”.
يتابع: “يفتح مطعمنا أبوابه في السادسة صباحًا ويستمر حتى الثامنة ليلًا، ننتج عددًا كبيرًا من الفراشيح خاصة مع الإقبال الجيد علينا، رغم غياب أساسيات في العمل نتيجة إغلاق المعابر، وعدم توفّر غاز الطهي”.
يتابع بابتسامةٍ حزنٍ واسعة: “الحرب ما بترحم، الحصار اشتدّ وصرنا بحاجة لشي يسدّ جوعنا، ودوّرنا على بدائل لكل العراقيل زي انقطاع الغاز والكهرباء والمياه وارتفاع أسعار مكوّنات الفلافل زي الحمص والخضراوات وزيت الطهي، اعتمدنا على الحطب في إشعال النار والقلي”.
يُكمِل: “الخشب هو البديل عن الغاز ولكن سعره مرتفع، والغاز إن توفّر أيضًا سعره مرتفع جدًا، وليس هناك إمكانية للتعبئة، هذه عقبات تصعّب عملنا وتؤثر على الربح”.
ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومع نفاد الوقود يعتمد سكّان قطاع غزة على الحطب والورق المقوّى وقطع البلاستيك في الطهي وإنضاج الخبز وتسخين المياه لتلبية متطلباتهم اليومية.
يتنهّد بعمقٍ وهو يروي كيف يجاهد من أجل إكمال حياته مع زوجته تحت وطأة أعباء النزوح، فالبقاء على قيد الحياة بالنسبة لهم انتصار، في ظل غياب أبسط الحقوق الإنسانية، فحتى مياه الشرب يحتاج إلى الوقوف في طوابير من أجل توفيرها، ومياه الاستخدام المنزلي تتوفر بصعوبة بالغة وبكميات محدودة، بل ويتم تعبئة الجالونات بثلاثة أضعاف ثمنها.
عودة إلى راوية التي تقول: “إحنا مش شعب مساعدات، إحنا بنشتغل بإيدينا ولازم العالم كله يفهم هيك، كان عندي تجربة في عمل الفلافل لما كنت أساعد عمّي في مطعمه وأنا صغيرة، نفس المهنة اللي تسببت في بتر أصابعي اليوم هي مصدر دخلي”.
تحبس أنفاسها وتطلق زفرةً وتنهيدة: “عائلتي في حالة من التشتت والضياع نصفهم جنوب قطاع غزة بمدينه خانيونس “منطقة المواصي” والنصف الآخر شمال القطاع، لديّ 9 أشقاء جميعهم تم تدمير منازلهم، فقدت ابنة شقيقي “ريماس عيّاد 14 عامًا”، بعمر الزهور، بعد قنصها من طائرة الكوادر كابتر خلال محاولتهم النزوح من بيتهم إلى مكانٍ آخر، بنت أخويا استشهدت وهي بتحاول النزوح وما لقيت فرصة ألقي نظرة وداع عليها، وضلّت غصة في قلبي”.
لم يكن فقدان ريماس الحزن الوحيد لعمّتها التي طالما أحبّتها، فهي أيضًا لا تعلم مصير شقيقتها رائدة وأطفالها الثلاثة الذين انقطعت أخبارهم بعد استشهاد زوجها منذ عدّة أشهر أثناء محاولته توفير طعام أطفاله.
تقول: “حرقة دم وحسرة، مش قادرة أتواصل مع أختي بغزة أطمّن عليها وهي بتعيش المجاعة شمال قطاع غزة، عايشة في حالة قلق دائم دون معرفة أي أخبار هل هي وأطفالها عايشين والا صابهم مكروه”.
لا تحتمل راوية الحديث عن والديها دون أن تهطل دموعها، فهما كبيران في السن، ويمكثان داخل خيمة شديدة الحرارة نهارًا وتغرقها المياه شتاءً، المنطقة أشبه ما تكون بصحراء تفتقد للمستشفيات والمخابز يعيشون ظروفًا قاسية.
تتابع: “رغم أن الأطفال نعمة الحياة وزينتها، لكن بسبب الحرب بحمد ربنا إني انحرمت الأطفال عشان ما أشوف طفلي بيموت قدام عيني على مدار 11 شهر، ومش قادرة أعمله إشي، الموت سلب حياة آلاف الأطفال ورأيت الرعب في عيون أبناء أشقائي مع كل صاروخ يسقط ويجعلنا في حيرة كيف نحمي صغارنا، ومن منهم أو منّا سينجو”.
وبينما تقوم راوية بتجهيز كميات من الفراشيح لصالح أحد مراكز الإيواء، تختم حديثها: “أشجّع النساء على تحدّي الظروف الصعبة بكل الإمكانيات، وتحقيق حلمهن”.
وما زالت تأمل راوية أن تنتهي الحرب وتتمكن من الالتقاء مجددًا بعائلتها وإعادة تأسيس مشروعها الذي خسرته، فرغم كل شيء ما زالت تحلم بأن يكون لها حياة أفضل.