إبعاد وفقد وإصابة… ثلاثة حروب ضد (فريال)
إبعاد وفقد وإصابة… ثلاثة حروب ضد (فريال)
دير البلح – خديجة مطر
أمام خيمةٍ بسيطةٍ بأحد مخيمات النزوح في دير البلح وسط قطاع غزة، تجلس الشابة فريال الشوربجي (20 عامًا) على كرسيٍ متحرّكٍ إلى جانب شقيقها، تنظر إلى قدمها المبتورة بحزن، تتحسّر على عائلتها، وتنتظر بفارغ الصبر فرصةً بعيدة المنال للعلاج خارج قطاع غزة!
“كنت أعيش في بيتٍ متواضعٍ يجمعني مع عائلتي الصغيرة التي أصبحت ذكرى، كلهم استشهدوا، حتى أعمامي وأخوالي كلهم في مدينة القدس، يفصلني عنهم حواجز وقواعد خرسانية تحرمني حتى من العناق وأنا أعاني إصابة خطيرة بلا عائلة ولا سند، جليسة الكرسي المتحرك وحدي”، تقول فريال وهي تجهش بالبكاء.
في تفاصيل قصة فريال، كانت تسكن مع والدها وإخوتها في بيتهم بقرية أم النصر أقصى شمال قطاع غزة، ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، وإجبار الاحتلال لسكّان شمال القطاع على النزوح إلى الجنوب، كانت فريال وعائلتها ضمن من أُجبروا على النزوح.
تقول وهي تضغط بيدها على كرسيها المتحرك: “نزحت برفقة والديّ وشقيقي (15) مرة من مكانٍ لآخر شمال قطاع غزة من أجل النجاة بأرواحنا، ونحن لا نملك شيئًا، في البداية خرجنا تحت الرصاص نحو باحة مستشفى الشفاء بغزة، أقمنا في خيمة، ثم إلى ساحة جامعة الأزهر، عشنا المجاعة هناك، يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2023م، قرر والدي المجازفة برفقة أحد أقاربنا للبحث عن شيء يؤكل، فقدنا الاتصال به ليومين، وعلمنا بعدها باستشهاده بطلقٍ ناري في رأسه”.
ظلّت جثة أحمد والد فريال ومعه شهيد آخر ملقاة في الشارع لخمسة أيام حتى نهشتها الكلاب، ثم وجدت جدّتها جثمانه ودفنته دون أن تلقي العائلة نظرة وداعٍ عليه أو معرفة مكان قبره، تتساءل محتارة: “مش عارفة ضايل قبر أبويا ولا تجرّف”.
أُجبرت فريال لاحقًا على النزوح من جامعة الأزهر يوم 17 يناير/كانون الثاني 2024م، بعد حصار الاحتلال لها، فخرجت الجموع حاملين الرايات البيضاء، وعلى الطريق مرّت بعشرات الجثث الموزّعة على الطرقات، والجثامين المتحللة والمتفحمة حتى وصلت إلى منزل عمتها في النصيرات وسط قطاع غزة، لتعيش الفقد بعيدًا عن عائلتها!
تعود جذور عائلة فريال إلى مدينة القدس، حيث ولدت في قرية العيزرية لأبٍ فلسطيني يملك محلًا تجاريًا وأم من مدينة نابلس، تغيّرت أحوالهم بعد اقتحام جيش الاحتلال لبيتهم واعتقال أبيها أحمد عام 2003م، ثم إبعاده عام 2009م إلى قطاع غزة، لتضطر والدتها (رسيلة السويركي) إلى القدوم رفقتهم للقطاع ومعها جدّة فريال، حيث عاشت مع ابنتها وابنها، ليصبحوا مبعدين عن عائلتهم في القدس.
تتنهد فريال وهي تكمل: “فجر يوم 19 مايو/أيار 2024م، أسقطت طائرات الاحتلال برميلًا من المتفجرات وسط مدينة النصيرات، طال منزل عمتي الذي نزحنا إليه والمتزوجة بالقطاع، مكثت ثلاثة أيام في غيبوبة داخل مستشفى شهداء الأقصى، أفقت لأجد نفسي مبتورة القدم والثانية مهددة بالبتر، ومصابة بكسورٍ عميقةٍ في الحوض وإصاباتٍ متفرقةٍ في جسدي”.
هنا بكت بشدّة ولم تستطع مواصلة الحديث، لكنها استدركت بصوتٍ متقطع: “31 إنسانًا ضحايا المجزرة من عائلتي الشوربجي وحسان، استشهدت أمي وجدتي وابن عمتي وزوجته الحامل، وأنسابه جميعًا، فقط أربعة من نجوا بينهم أنا وشقيقي محمد الذي كان مصابًا”.
ويخالف ما تعرضت له عائلة فريال اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين، كما حظرت في مادتها (3) التعرّض للأشخاص المحميين بالأذى والقتل بجميع أشكاله والتعذيب.
بعد شهرين من المكوث في المستشفى خرجت فريال لتجد نفسها مع شقيقها محمد (15 عامًا) وحدهما في العراء، استضافتهم عائلة داخل خيمة في دير البلح، لكنهم يعانون أزمة خصوصية وعدم توفّر الرعاية الصحية لهما، ولا يملكون مالًا من أجل شراء الملابس والأغطية والطعام.
تتنهد وهي تختم: “نعيش أنا وأخي على مساعدات من أهل الخير، ما أتمناه الآن أن أتمكن من السفر وإنقاذ رجلي الثانية من البتر، خاصة وقد أخبرني الأطباء إمكانية إنقاذها، وتركيب طرف صناعي ومواصلة علاجي، والعودة لحضن عائلتي بمدينة القدس”.