تجاربٌ صادمة في نزوح ذوي الإعاقة
غزة- رفيف اسليم :
دبابةٌ تحوم في المنطقة تطلق قذائفها بشكلٍ أرعن، رصاص عشوائي يصيب البيت من كل الاتجاهات، قصفٌ جويٌ ومدفعيٌ لا يتوقف مستهدفًا المنازل المتلاصقة، ووسط البيت تنكمش سها على كرسيٍ متحرّك مذعورة لا تملك سوى البكاء، تضع يدها على فمها كي لا تنطلق منه صرخةً، ثم تستيقظ من الكابوس والعرق يبلل جبينها.
ما ورد في السطور السابقة، لم يكن كابوسًا يوميًا يلاحق سها عيّاد (32 عامًا) في منامِها فحسب؛ بل حالة عاشتها فعلًا قبل نزوحها من منزلها في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، حين تعرّض الحي للقصف من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، في نوفمبر 2023، خلال حربه على قطاع غزة التي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023م.
تقول سها وهي من ذوات الإعاقة الحركية: “متذكرة تفاصيل هاليوم كتير منيح، الكل بده يشرد وما حد شايفني، الدم مغطّي وجهي ومش قادرة أشوف قدامي، وأمي الوحيدة مصممة ما تطلع من المكان إلا معي”.
لم تشعر سها قبل هذه التجربة إنها من ذوي الإعاقة، بالعكس، كانت تعيشُ حياتها بشكلٍ طبيعي، تتدربُ في نادٍ لكرة السلة كلاعبةٍ محترفة، لكن النزوح أسقط تلك المعادلة وجعلها ترى إعاقتها وحاجتها للمساعدة، خاصةً بعد إصابتها بإحدى عينيها وعدم تلقّيها العلاج إثر توقّف عمل المشافي شمال قطاع غزة.
تنظر سها إلى كرسيها المتحرّك وهي تسأل نفسها: “كيف رح أحرّك عجلات الكرسي والشارع مليان قزاز (زجاج) وشظايا الصواريخ والحديد والحجار”، مردفةً إن الحرب زادت معاناة ذوي الإعاقة لكن لا أحد يهتمّ بالمساعدة، حتى باتت تخشى أن تُدفن تحت ركام منزلها بفعل الصواريخ والقنابل الثقيلة التي يلقيها الاحتلال بطريقةٍ جنونية.
تضاعف الهاجس لدى سها عندما شاهدت جثث العشرات من أبناء عائلتها سقطوا أثناء النزوح من منطقة لأخرى، لكن الرصاص كان أسرع منهم، وهي تدرك مدى القوة التي منحها الله إياها لتهرب من مكان تواجدها صوب مكانٍ آخر بعيدًا عن الغارات.
لم تكن معاناة النزوح من مكانٍ لآخر جنوب قطاع غزة أقلُ بشاعةً مما يجري في شماله، فالجميع تحت النيران سواء، لا يتلقّون المساعدة، رغم أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (2475) يأمر بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية بشكلٍ آمن للمدنيين ذوي الإعاقة.
لذا، كانت رحلة الشابة رنا العطار مع شقيقها يوسف (14 عامًا) من مدينة رفح باتت أكثر صعوبة مع إغلاق جمعية الحق في الحياة التي تقدّم خدماتها لمصابي متلازمة داون مثل يوسف، ولم يعد هناك أي مؤسسة تقدم لهم الخدمات والدعم النفسي، خاصة مع اشتداد الغارات ونزوحهم من مدينة رفح صوب مواصي خانيونس.
“بدّيش أطلع من الدار، احكولهم يسيبونا وبنقعد ساكتين”، هذه الكلمات التي كان يوسف يرددها باكيًا طوال طريق نزوحه من مدينة رفح جنوب قطاع غزة كما تروي شقيقته رنا، حيث عاش في مخيمٍ للنازحين بينما لا يقوى على مواجهة حملة التنمّر التي يتعرّض لها من الصغار في المخيم، بعدما ترك الحي الذي فيه جيرانه وأحبائه، وبات الأمر مؤلمًا لكل العائلة.
استقرّ قرار العائلة وفقًا لرنا على ترك الخيمة والبحث عن منزلٍ ليكون من السهل السيطرة على حالة يوسف، فقد باتت صرخاته العالية المتواصلة لساعات مطالبًا بالعودة للبيت مقلقة للجميع، لكنه بعد الانتقال للمنزل المستأجر تحسّن تدريجيًا، ويحاول التأقلم مع الوضع الجديد الذي فرضته الحرب، لكنه ما زال يسأل “متى رح تخلص الحرب ونرجع ع الدار”.
ويخالف ما تعرّض له الفلسطينيون اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي تحظر استهداف المدنيين وممتلكاتهم والتهجير القسري لهم، كما يخالف اتفاقية الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تنص على ضرورة اتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة بما في ذلك النزاع المسلح.
وكانت بيانات شبكة المنظمات الأهلية، أكدت أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة خلّفت 10 آلاف إصابة جديدة من ذوي الإعاقة نصفهم من الأطفال، يضافوا إلى أكثر من 55 ألفًا يعانون الإعاقة منذ ما قبل الحرب.
بدوره يقول محمد أبو كميل عضو الاتحاد الفلسطيني للأشخاص ذوي الإعاقة، إنه قبل بداية الحرب كان ذوي وذوات الإعاقة، يواجهون أوضاعًا معيشية صعبة، لتأتي الحرب وتزيد حدّة الأوضاع خاصة مع غياب المراكز الطبية التي تقدّم الخدمات التأهيلية والنفسية والأدوات المساعِدة، وعدم تهيئة مراكز النزوح والمواصلات لنقلهم، لافتًا أن تلك المعوّقات شكّلت ضغطًا نفسيًا وصحيًا عليهم.
وتابع أبو كميل إن النساء والأطفال أكثر من ذوي الإعاقة، أكثر الفئات تضررًا خلال الحرب، خاصة حملات التنمّر التي يواجهونها في مراكز النزوح، والتعرّض لمضايقات مختلفة خاصة النساء، مطالبًا بتهيئة مراكز النزوح وتوفير المراحيض المناسبة لهم، وتوزيع نشرات للتوعية للنازحين بضرورة احترام الأشخاص ذوي الإعاقة ومساعدتهم.