(لينا) تتحدى ذكرياتِ الاعتقال بابتسامةِ حزن

(لينا) تتحدى ذكرياتِ الاعتقال بابتسامةِ حزن

دير البلح- فدوى عبد الله:

“كنت متأكدةً أنني لن أتجاوز الموضوع إلا بالحديث عنه، لا أحبّ تذكر معتقل عناتوت وبئر السبع، أتكلّم كي لا أهرب مما جرى، أحدّث عائلتي عن الأيامِّ الأشد قسوة؛ مبتسمةً وهم يبكون”.

هكذا، تروي الأسيرة لينا طبيل (23 عامًا) رحلةُ عذابِها بين أقفاصِ سجن عناتوت؛ وعتمة سجن الدامون، بعدما احتجزتها قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال نزوحِها برفقةِ عائلتها من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، عبر حاجز نتساريم جنوب مدينة غزة!

وكانت إسرائيل أعلنت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، الحرب على قطاع غزة، أتبعتها إجبار المدنيين على النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، لكن الكثيرين تعرّضوا للاعتقال خلال مرورهم على الحواجز التي أقامها الاحتلال، تمامًا كما حدث مع لينا.

يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، أثناء مرور لينا وعائلتها على الحاجز، نادى الضابط “فُتح الحاجز”، كاميرات المراقبة في كل زاوية، القناصة يعتلون الأماكن المرتفعة، يستنفرون في كل اتجاه، تقدّمت لينا وعائلتها، يد معلنة الاستسلام وأخرى تحمل الهوية الشخصية.

تقول لينا: “نادي الضابط أخي، فطلبتُ منه تجاهل النداء، لأن عمره 16 عامًا، ولن ينادوه، وقبل أن تصل العائلة للحاجز، أمر الضابط الطابور بالتوقف، وصرخ في وجه أخي ألم نناديك، وعندما تقدّم نحوهم طلبوا منه التوقّف وقالوا: قل لمن ترتدي أسود وأبيض خلفك أن تأتي”.

تبتسم لينا حائرة، وبغصةٍ تكمل: “عمري ما شفت جيش ولا جنود، لا أفهم لماذا يحتجزوني، من لحظتها وعقلي خارج الخدمة”.

التحقت لينا بطابور المحتجزات، قدمت هويتها، ثم طلبوا منها إلقاء كل شيء، والتوجه لخيمةٍ مفتوحةٍ على المجندات، فتشوها بشكل خاص وعبر الأجهزة، وقيدوا يديها، وعصبوا عينيها، ونقلت للتحقيق، ثم ألقوها فوق كومة من الزجاج والحجارة، وليلًا نقلوها رفقة باقي المحتجزات عبر ناقلة جند وسط التنكيل بهن بكعوب البنادق والأحذية.

تعقّب: “ضرب الجنود أحد المحتجزين حتى كسروا قدمه”.

قضت لينا ليلتها الأولى في معسكر بغلافِ غزة، حيث أصواتُ الاشتباكاتِ مسموعةً، فُتشت أكثر من مرة دونَ حجابٍ ولا حذاء، وصباحًا سألتهن مجندة إن كُن يردن الطعام، فقبِلن حرصًا على أسيرة أجهضت من الخوف، وأنين ألمها كان يُقابل بصمتٍ وشتائم فقط.

تتابع لينا: “عادت المجندة برغيفٍ وفتحت فمي ووضعت به لقمة عفِنة، وكل من بصقَتها انهالت عليها بالضرب، طلبنا ماءً ليذهب طعم العفن، وتجاهلونا”.

صف الجنود المحتجزات بطابورٍ يمسك الأولى والأخيرة جندي، ساروا دائريًا بأقدامٍ عارية تمزقها صخور جارحة، والجنود يغنون بالعبرية ويشتمون، وفي اللفة الأخيرة وضعوا سيخ حديد.

تقول: “سمعت الفتيات تتألم، استطعت من خلف العصبة ملاحظة السيخ وتجاوزته، فضربني الجندي بكعب السلاح بظهري، وأجبرني على السير عليه، ثم فتشنا ونقلنا إلى معتقل عناتوت بالقدس”.

ثماني ليالٍ يُسمع خلالها صرير أسنان المعتقلات، ملابس صيفية وبلا غطاء رأس، يجلسن حول بعضهن فيفرقهنّ الجنود، وبفعل العواصف وقعت الحواجز عليهن، لا يزورهن سوى الحيوانات الضالة، لتتناول الطعام الذي لا يستطعن تناوله بسبب القيود، وعدم وجود دورات مياه.

تتابع لينا: “يوم الخميس كان دوري في التحقيق المطول، عرض الضابط لي خارطة، وقال لي: “هذا منزلك، وهذا بيت فلان، وأين بيت فلان”، للوصول لأي معلومة لا أمتلكها.

بمجرد انتهاء التحقيق شعرت بأن عقلي توقف، كنت منهارة تمامًا، ثم نقلنا لسجن الدامون، وعندما وصلنا قلت:” أنا رُميت وراء الشمس كما يقال، خارت قواي وبدأت أرجف”.

خلال إجراءات الدخول لسجن الدامون، رفعت الأسوار البلاستيكية التي تحمل رقم لينا بالكماشة، حيث كانت محفورة بيديها، وفي النقل والتفتيش يروها المجندات ضيقة ويدها زرقاء فيضيقوها.

استقبلت الأسيرات من الضفة الغربية، أسيرات غزة، قدمن لهن الملابس، واستطعن الاستحمام، منعت إدارة السجن اختلاطهن، ومن تتواصل مع بنات غزة تُطلب للتحقيق، وتُنل للانفرادي”.

تتابع:” وفي أحد المرات منعونا من النزول للساحة، فتضامنت معنا السجينات، وتراجع مدير السجن، وكانت الفورة لنا فقط ربع ساعة للاستحمام”.

صادف ثاني يوم في السجن، أول أيام الهدنة، أخذت الأسيرات الأربعة المفرج عنهن بصفقة التبادل أسماء أسيرات غزة، وعممت أسماءهن، واستطاعت العائلة معرفة مصير لينا، وبعد اثنين وخمسين يومًا من الاعتقال، أُبلغت لينا بالإفراج.

ينقل الأسرى قبل الإفراج عادة للمعتقل، حتى الانتهاء من الإجراءات، هذا ما أرعب الأسيرات اللواتي يفضلن البقاء حتى الموت داخل السجن، ولا عيش ليلة أخرى داخل عناتوت، وهذه المرة رُحّل الأسرى من الدامون إلى معتقل ببئر السبع.

في طابور التفتيش لإصدار بطاقة دخول هذا المعتقل، ينتظر الأسرى بوضعية السجود، واليدين والقدمين مكبلات والحديد يغرز بالقدم، بقيت لينا ساعة بهذه الحالة، وعندما قدم الجندي لرفعها سقطت، فركلها بالسلاح، ثم ٌجرت وسط رمي الحجارة والماء والشتائم.

خرجت لينا ولم تنتهي الحرب، ولم ترى والدها واستشهد أخوها والكثير من الأصدقاء والأحباب في شمال غزة، نزحت من جديد، تقاسي صعوبة الحياة في الخيام، وآلام القهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى