بين الألم والتعافي النفسي.. كيف تشفى جراح فقد الأبناء؟
بين الألم والتعافي النفسي.. كيف تشفى جراح فقد الأبناء؟
أماني شنينو- غزة
ليست كلمات، بل هي صرخات من قلبٍ مكلوم، تحكي عن وجعٍ لا ينطفئ ولا يهدأ. الشاعرة والكاتبة الفلسطينية آلاء القطراوي، التي فقدت أطفالها الأربعة في لحظةٍ واحدة، حينما قصف الاحتلال منزلها بلا رحمة، تاركًا أجسادهم الصغيرة تحت أنقاضه؛ رحلوا دون قبور تحتضنهم، ودون وداع يليق بحبها الكبير لهم. في مقابلة مؤثرة مع الكاتبة آلاء القطراوي، الحاصلة على الدكتوراه في الأدب والنقد، حدثتنا عن اللحظات الأخيرة التي جمعتها بأطفالها قبل أن تحاصرهم قوات الاحتلال، قائلة: “رغم أن تلك اللحظات كانت تحت وابل القصف وفي قلب الحرب، إلا أنها كانت لحظات غمرها الحب والحنان؛ كان الطعام شحيحًا، لكنني تمكنت من تحضير طبق معكرونة شهيّ؛ ما زلت أتذكر كيف وضعت كرمل، حبيبتي الصغيرة، في حضني، وأطعمتها لقمةً لقمة، كانت تأكل بفرحٍ وبشهيّة، وكذلك إخوتها”.
تواصل، “ربما أجمل لحظة كانت عندما طلب كنان أن يأكل الكلمنتينا، في وقت كان فيه كل شيء نادرًا، كانت الفواكه شحيحة، لكن رائحة الكلمنتينا كانت تفوح في الهواء، بدأنا جميعًا نشمها ونقول واو، كم هي رائعة! وضحكنا معًا”.
تلتقط أنفاسها، وتردف قائلة، “كانت لحظات مليئة بالتعب، لكننا سرقنا منها بعض الفرح، بين كل غارة وأخرى، ورغم الحرب التي كانت تحاصرنا من كل جهة، نمنا جميعًا جنبًا إلى جنب، والجو كان باردًا، لكننا شعرنا بدفء لم يكن له علاقة بالحرارة؛ كان دافئًا لأننا كنا معًا، متحدين في تلك اللحظات؛ وبينما كانوا يظنون أنهم يستمدون القوة مني، كنت في الحقيقة أستمدها منهم، من قوتهم، من ضحكاتهم، من الصبر الذي كنا نعيش به”.
الخبر الصادم
حينما انقطعت أخبار عائلة آلاء تمامًا، بعد أيام قليلة من اجتياح مدينة خانيونس، لم تستسلم لليأس، حاولت بكل الطرق الوصول إليهم، لكن دون جدوى. تروي بحزن عميق: “ناشدتُ الصليب الأحمر مرارًا وتكرارًا، لكن الرد كان واحدًا: المنطقة عسكرية، ولا يمكننا التدخل”. لحظات الانتظار القاتلة تحولت إلى كابوس، حتى جاءها الخبر الذي مزق قلبها، استشهدوا جميعًا. كانت الصدمة تفوق الاحتمال، شعرت حينها أن العالم بأسره قد خذلها، أن كل من يدّعون الإنسانية قد أداروا ظهورهم لها، تاركينها وحيدة في مواجهة الفاجعة. حاصر جنود الاحتلال الأطفال داخل منزلهم، اقتحموا المكان وسط صرخاتهم وذعرهم، توسلت إليهم جدتهم: “دعوا الصغار يخرجون بسلام!” لكن الرد كان وحشيًا، تهديدات قاسية، ثم قصف بلا رحمة. بصوت يرتجف من الألم، تهمس: “رأيتهم يموتون أمام أعين الجميع… وكأنها مجرد مشهد سينمائي يُتابع بصمت! يا له من احتلال مجرم… ويا لعار كل من سانده!”
ذكريات موجعة
بالنسبة للأم، أطفالها لم يرحلوا، فهم حاضرون في كل زاوية من البيت، في كل تفصيلة صغيرة تذكرها بهم. تقول بصوت يفيض شوقًا: “أحب كل شيء يخصهم، ليس فقط ثيابهم وألعابهم وأطواق ومناكير أوركيد وكرمل، بل حتى ألوانهم المفضلة، أفلامهم، كلماتهم، ملابسهم، مأكولاتهم، أماكنهم وألعابهم.” لكن أكثر ما يكسر قلبها هو ذلك الفستان الجميل الذي اشترته لابنتها أوركيدا. حين رأته، قفزت فرحًا وقالت: “شكراً يا ماما، أنا بحبك!” يومها، وعدتها الأم بأنها سترتديه في الصيف المقبل. أتى الصيف… لكن أوركيدا لم تأتِ معه. وبقي الفستان معلقًا هناك، شاهدًا صامتًا على فاجعة لا تنسى.
لولا الإيمان لانهارت الروح
تقول آلاء، بصوت يثقله الحزن لكنه مشبع بالإيمان: “هناك لحظات يكون فيها الحزن قاسيًا حد الاختناق، لكن الله ينقذني دائمًا حين أتذكر أنهم عنده، في جوار سيدنا رسول الله ﷺ، وأنهم أحياء عنده يُرزقون. لولا الإيمان، لكنت فقدت عقلي، لكن أصعب ما يؤلمني هو الشوق… أن أمدّ يدي لأحتضنهم فلا أجدهم، أو أن أراهم في رؤيا، أبتسم لهم، أحدثهم، ثم أصحو فجأة… فأبكي حين تدهمني الحقيقة من جديد.” أما بقاء جثامينهم تحت الأنقاض، فهو جرح آخر، شاهد على زيف العالم وادعاءاته بحقوق الإنسان. لكنها تواسي نفسها قائلة: “أجسادهم كانت مجرد غلاف أما أرواحهم، فهي الباقية، وهي في رحمة الله”.
الكتابة.. حياة ومقاومة
حين تصبح الكتابة أكثر من مجرد كلمات، حين تتحول إلى شاهد على الألم وذاكرة لا تمحى، تؤكد آلاء: “إنها ليست ترفًا، بل ضرورة، لأنها تؤرخ لكل هذه التفاصيل التي لا يجوز أن تُنسى. الشعر، النثر، كل أشكال الكتابة تجعل المأساة خالدة، لتذكرنا دائمًا أن من رحلوا لم يكونوا أرقامًا، بل كانوا أرواحًا نابضة بالحياة. لا زلت قادرة على الكتابة، لأن الكتابة حياة، مقاومة، إرادة، وأمل. إنها ذاكرتنا الخصبة، التي تجعلنا أكثر ارتباطًا بهويتنا الفلسطينية، وبحقنا التاريخي في أرضنا وبحرنا وسمائنا.”
وتضيف بثقة: “من حولي يرون في حزني نافذة للأمل، وأنا استطعت أن أحوله إلى نور بفضل الله الذي أنار بصيرتي ورزقني الصبر. هذه الدنيا ليست سوى اختبارات متتالية، وفي كل اختبار، علينا أن ننتصر لله في أمره. كلما رضيت، أشرقت روحك، وكلما سخطت، أظلمت. فلا يستوي الأعمى والبصير”.
رسالة وأمنية
تبعث آلاء القطراوي برسالتها إلى العالم، بصوت أمٍّ جُرِّدت من أغلى ما تملك: “للأطفال حقٌّ مقدس في الحياة، لا يجوز المساس به تحت أي ذريعة كانت. ما حدث مع أطفالي الأربعة ليس سوى جريمة مكتملة الأركان ارتكبها الاحتلال الصهيوني. أخبروني، ماذا يمكن أن يفعل أطفال تحت العاشرة ليُواجَهوا بالموت؟! إن صمت العالم عن هذه الجريمة، فإن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون.”
وبعد هذه التجربة القاسية، تتمنى آلاء أمنية واحدة: أن لا تعود الحرب أبدًا، أن يحفظ الله الأمهات وأطفالهن من هذا المصير القاتل. وتدعو المجتمع إلى التكاتف من أجل تخفيف هذه المعاناة التي تجرّعها أغلب سكان قطاع غزة، وإلى رعاية الأيتام والاهتمام بهم، ليجدوا من يحتضنهم ويوفر لهم الحياة الكريمة التي حُرموا منها.
تجربة أب وطبيب نفسي
في رحلة البحث عن سُبل لمداواة جراح الفقد، التقينا بالدكتور النفسي سليمان قديح للحديث عن أهمية الدعم والعلاج النفسي للأمهات والآباء الذين فقدوا أبناءهم، وسط الإبادة الجماعية التي استمرت لعامٍ وثلاثة أشهر.
لكن الحديث عن الفقد لم يكن مجرد نظريات عند الدكتور سليمان، بل تجربة عاش تفاصيلها المؤلمة بنفسه. بصوت يختلط بين العلم والمشاعر، قال: “أنا واحد ممن فقدوا أبناءهم… فقدت ابني، وما زلت غير قادر على استيعاب رحيله. أنا طبيب نفسي، لكن في النهاية، أنا أب قبل كل شيء. لا يمكن وصف هذا الحزن، لا يمكن قياسه، إنه وجع يسكن الروح، يُغيّر الإنسان إلى الأبد.”
يقول د. قديح: “صدمة الفقد، خاصة عندما يكون مفاجئًا ووحشيًا، تترك الأمهات والآباء في حالة من الشلل العاطفي والذهني. قد لا يظهر التأثير في البداية، لكنه يتغلغل في الأعماق، ويظهر لاحقًا في صور متعددة، مثل الاكتئاب، العزلة، أو حتى اضطراب التفكير”.
المراحل النفسية للفقد
تمر الأم بمراحل نفسية معقدة بعد الفقد، تبدأ بإنكار الواقع ورفض تصديقه، ثم يتحول إلى غضب داخلي وصدمة قد تصل إلى التمرد على الحياة نفسها. مع مرور الوقت، تتجه نحو الاكتئاب العميق أو محاولة التأقلم، والتي تختلف حسب شخصية الأم، ودعم أسرتها، وعمق ارتباطها العاطفي بأطفالها. وهنا يلعب الإيمان دورًا جوهريًا في إعادة التوازن النفسي، إذ يساعدها على استمداد القوة من الله والبحث عن معنى للحياة رغم الألم. بحسب د. قديح.
علامات الصدمة النفسية
ممكن أن تظهر بعد موت الأبناء، حالة نسميها صدمة الموت، يشرحها د. قديح: “هذه الصدمة عند الأب أو الأم تجعلهم يرفضون الواقع، التمرد على الواقع، والعزلة عن المجتمع، الأفكار السلبية، والدخول في نوبات من الاكتئاب وتفضيل الموت على الحياة. ونحن نعرف في علم النفس أن فقدان الأبناء هو من أكثر الأحداث تأثيراً وأصعبها، وأكثرها ألماً على الأهل، فقد يعيش الأهل اضطراب في القدرة على التكيف نسميه في علم النفس “ضعف الصلابة النفسية” وهذا ما قد يؤدي لمشاكل أخرى كالعصبية المُفرطة، والتوتر، والشرود الذهني، واضطراب في التفكير”.
نصائح الطب النفسي
يتابع: “لا يمكن للأم أو للأب الذين فقدوا أطفالهم تجاوز الحزن تمامًا، لكنه يصبح جزءًا من حياتهم يتعلمون التعايش معه”. وللتأقلم مع الفقد ينصح بالتالي:
– الخروج من العزلة والانخراط في المجتمع.
– الجلسات النفسية الجماعية والفردية، لتخفيف الشعور بالوحدة.
– تعزيز الجانب الديني: فهو مهم جداً لتجاوز الصدمة والفقد، عبر الصلاة والدعاء واستمداد القوة من الله.
– السايكو دراما، كوسيلة تعبيرية لتفريغ المشاعر، وهذه يقوم بها الأخصائيون.
– الدعم النفسي: دور الأخصائي النفسي في بداية الفقدان تقديم المساندة فقط، ولكن التدخل النفسي يأتي بعد ذلك بفترة عبر برامج يقوم بها الأخصائي، ووضع خطط سلوكية أو تحليلية أو معرفية.
المجتمع كملاذ
يستطرد د. قديح، “في غزة، حيث الفقدان بات جماعيًا، يصبح الدعم الاجتماعي عاملاً حاسمًا في تخفيف وطأة الألم. عندما يعاني الجميع، يصبح التكاتف والاحتواء قوة علاجية بحد ذاتها، إذ تتشارك الأمهات قصصهن، ويتحول الحزن إلى رابط إنساني يخفف العزلة”.
الدعم النفسي في غزة
يختتم د. قديح حديثه بتسليط الضوء على واقع الدعم النفسي في غزة، قائلًا: “في ظل الدمار وانعدام الموارد، يصبح تقديم الدعم النفسي تحديًا صعبًا. يفتقر القطاع إلى البنية التحتية اللازمة لمساندة الفاقدين، ورغم ذلك، نحاول—نحن المتخصصون—تقديم العون بما هو متاح، سواء من خلال جلسات الدعم الجماعي أو الأنشطة المجتمعية، في محاولة لتخفيف بعضٍ من هذا الألم الذي لا يوصف.”
ويظل الواقع أكثر قسوة مما يُحتمل، إذ شهدت حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة استشهاد 17,881 طفلًا، وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تاركة وراءها آلاف الأسر التي تبحث عن سبيل لمداواة جراح الفقد العميقة.