وتناشد لإنقاذ الثاني أمٌ توفّي ابنها بسبب الحرب…. (بنادي عليه في المنام)

وتناشد لإنقاذ الثاني

أمٌ توفّي ابنها بسبب الحرب…. (بنادي عليه في المنام)

النصيرات – سالي الغوطي:

في خيمةٍ شديدة الحرارة بأحد مخيماتِ النزوح بمدينة النصيرات وسط قطاع غزة، تجلس السيدة هويدا دياب (44 عامًا)، واضعة يدها على خدّها، تارة تمسح دموعها بطرفِ خمار الصلاة الذي يلازمها، وأخرى تقلّب على هاتفها النقّال صورًا لابنها الذي توفي مؤخرًا بسبب واقع النزوح!

ففي يوم 30 يوليو /تموز 2024م، توفي الطفل بشار دياب (16 عامًا) نجل هويدا بعدما تم تشخيصه بمرض اليرقان، الناتج عن الأوضاع البيئية غير الصحية في الخيام.

هويدا هي أمٌ لأربعة أطفال (بشّار، سراج، محمد، ورفيف)، كانت تعيش في حي التفاح وسط مدينة غزة، أُجبرت على النزوح من غزة إلى جنوب القطاع عدّة مرات، هربًا من الموت الذي كان بانتظارها بعدما حطّت الرحال بخيمتها في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.

عن تفاصيل مرض ابنها تقول بحزن: “ذات يومٍ شعر ابني بشار بالتعب، وكان لا يستطيع اللعب، ذهبت مسرعة إلى عدّة مستشفيات وأخبروني أن الأمر عادي وسينتهي خلال أيام، لم أكن أعلم أنها أيام ليفارق الحياة”، ووفقًا للأم، فقد أصيب الطفل بالمرض نتيجة لسوء التغذية والمياه الملوثة، فالعائلة تعتمد بشكل كبير على طعامِ المعلّبات.

ونقل موقع الجزيرة نت الالكتروني خبرًا مفاده إن 100 ألف شخص في قطاع غزة أصيبوا بمتلازمة اليرقان الحاد، أو ما يشتبه بأنه التهاب الكبد الوبائي (أ)، منذ بدء الحرب على قطاع غزة.

ويخالف ما يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة، بنود العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخاصة البند الأول من المادة (12)، والتي تؤكد حق كل إنسان في التمتّع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية.

تتابع أم بشّار: “ذهب بشار برفقة والده إلى مستشفى شهداء الأقصى، كان التعب يأكل جسده الضعيف، والمستشفى مكتظٌ بالمصابين والشهداء، أُعطيَ بشار إبرة لتخفيف وجعه، لكن قُطعت أنفاسه دون معرفة السبب”.

(حمميني وزفيّني زي العريس)، بهذه الكلمات كان بشار يتحدث إلى أمه التي تروي: “قبل يوم من وفاته حلق شعره وطلب أن أزفّه كما يزف العرسان، ضحكت لطلبه وبدأت بالغناء وتصويره على هاتفي النقال، كان شاحن جوالي سينفد، وكنت أسرع بالتقاط الصور ولم أعلم أنه الوداع”.

أم بشار: بنادي عليه في المنام

(بنادي عليه في المنام)، بدموع القهر قالت هويدا كلمتها وتابعت: “كيف سأعودُ إلى غزة دون ابني الذي كان يلازمني في كل زوايا البيت؟ كيف سأنظر إلى أصدقائِه وأخبرهم إنه مات؟ هل ما زال أصدقاؤه أصلًا أحياء؟ لماذا لم يكتبوا بجانب اسم ابني شهيد؟ هو أصيب بمرضٍ نتيجة الحرب وتبعاتها داخل تلك الخيمة اللعينة التي لا حياة فيها”.

تمسكُ هويدا فنجان قهوتها ترتشف منه مرةً تلو أخرى، وكأنها اعتادت مرارة الأشياء، تجولُ بنظرِها داخل خيمتها الصغيرة ذات اللون الأحمر المتعِب للعين، تتكدس داخلها أشياءٌ كثيرة، لكنها تخلو من مستلزمات الراحة المنزلية، تتنهّد وتقول:”كااااان عندنا بيت”.

تتذكر هويدا مراحل نزوحها والدموع تغرقُ وجهها النحيل: “عندما نزحنا إلى منطقة أنصار غرب مدينة غزة، حاصر الاحتلال المكان، ولم يكن هناك خطة سوى المكوث داخل مصعد البناية، وكتم أنفاسنا، كنا أربع عائلات لا نعرف بعضنا، فقط جمعتنا الحرب، مكثنا 14 يومًا”.

تكمل: “لم يبقَ معنا شيء نأكله، شربنا مياهًا ملوثة، وضعنا قطعة من القطن لتنقيتها دون فائدة، ذات يوم كان شاب في الشارع يبحثُ عن طعامٍ ولم يعلم أن جيش الاحتلال خلفه، كانت القذيفة أسرع وتناثرت أشلاؤه في المكان، لن ينسى أطفالي بشاعة هذا المشهد”.

تكمل: “كانت هناك طفلة مع إحدى العائلات في المصعد بعمر شهرين تبكي في وقتٍ كنا نسمع خطوات الجيش أسفل البناية، حاولت الأم إسكاتها خوفًا من قتلنا أو حرقنا كغيرنا، دون أن تشعر أنها قاربت على خنقها”.

أم بشار: كنا نسمع صراخ الناس وهم بنحرقوا أحياء

تتابع: “كنا نسمع صراخ الناس وهم بنحرقوا أحياء، وصوت الدبابات والقذائف والرصاص كأنه كابوس، نتساءلُ برعبٍ متى دورنا وكيف سنموت، حتى غادر الجيش وهربنا من جديد إلى حي الرمال”.

يوم 16 مارس/ آذار 2024م، أي خامس أيام شهر رمضان، توجّهت عائلة هويدا إلى جنوب قطاع غزة، عبر حواجز الاحتلال المسماة (الحلّابات) على طريق بحر غزة، سمعوا خلالها أقذر الشتائم من جنود الاحتلال، ولم يحملوا معهم سوى ملابسهم، ولدى مرورهم ضرب أحد الجنود قذيفة مدفعية في الجهة المقابلة.

أم بشار: شفنا طفلة بدون رأس

تقول هويدا: “كان هناك شهداء، شفنا طفلة بدون رأس، كيف سيعيش أطفالي بهذه الذاكرة، لكن فصول معاناتي لم تقف هنا، فالنزوح بداية معاناتي مع ما أصاب أبنائي محمد وبشار”.

كان بشّار تعرّض للإصابة بمرض اليرقان نتيجة سوء الأوضاع الصحية والبيئية داخل الخيام، رافق ذلك قلة ضعف الخدمات الصحية جنوب القطاع نتيجة للحرب على قطاع غزة، ما تسبب بوفاة العديد من المرضى.

أم بشار: غسيل كلى مستعجل

(غسيل كلى مستعجل)، كانت هذه الكلمة الثقيلة من قِبل الطبيب، هي الضربة الأولى على رأس الأم المكلومة، ابنها الصغير محمد (14 عامًا)، أصيب بفشلٍ كلوي منذ مايو/أيار 2024م، وباشر بالتردد على مستشفى شهداء الأقصى، من أجل غسيل الكلى الذي يستمر لأربعِ ساعاتٍ، ليبدأ صغيرها بمعركة النجاة من الموت.

تقول الأم: “أخبرنا الدكتور أن محمد أصيب بفشلٍ كلوي بسبب المياه الملوثة لاحتوائها على كميات كبيرة من النيترات والكلوريد، وبعض المعادن الأخرى مثل الرصاص والكبريت الذي يؤثر سلبًا على الصحة العامة، فكانت المياه التي شربناها، وطعام المعلبات، خلال حصارنا كفيلة بتدمير كلي طفلي محمد”.

وحسب تصريح وزارة الصحة، فإن المياه في قطاع غزة الملوثة، بالنيترات والمعادن الأخرى، تؤثر سلبًا على صحة الإنسان، والتي تُضاف إلى مصائب الحرب.

فمنذ بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومها العسكري على قطاع غزة، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2024م، دمّرت جميع المراكز المتخصصة في تقديم خدمة الغسيل الكلوي، باستثناء القسمين الموجودين في مستشفى شهداء الأقصى ومجمع ناصر الطبي، الأمر الذي يهدد حياة المرضى ويحرمهم من حقهم في العلاج.

انقطع الحديث، أسرعت هويدا إلى خارج خيمتها وكأنها سمعت أنفاس محمد المتعبة، بعد عودته من معركة غسيل الكلى، عادت للخيمة وهي تمسك ابنها محاولةً التخفيف من وجعه، جلس الطفل على كرسي مهترئ ورفع رأسه محاولًا التقاط أنفاسه، قائلًا: “فاكرة البنت اللي كانت تغسل كلى معي، اختاروها للعلاج خارج قطاع غزة”.

ردّت مستغربةً: “واسمك ليش لأ؟”، استدارت وهي تكمل: “ذاكرتي متآكلة لا تقوى على حمل كل هذا، لا أريد أن أخسر ابني محمد وأن يلقى مصير أخيه، في مستشفيات قطاع غزة ينعدم العلاج، تم تصنيفه حسب وزارة الصحة أنه مصاب حرب، ويحمل تحويلة طارئة للعلاج بالخارج”.

أم بشار: رح اعطيه كليتي بس نطلع

(رح اعطيه كليتي بس نطلع)، بهذه الكلمات تناشد هويدا العالم، وتزيد: “لا أريد أن أخسر محمد كما خسرت بشار، لا شيء في غزة متاح للعلاج، أو حتى الحياة، لا مستشفيات ولا طعام ولا حتى مياه عذبة، يكفينا حرب ويكفينا إبادة”.

ووفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، تنص المادة (55) على أنه من واجب دولة الاحتلال العمل على تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية.

يقول محمد: “حياتي لا تشبه حياة الأطفال، أريد اللعب والخروج، أخاف أن أبتعد عن أمي وأبي، أنا متعب جدًا، لم يعد للحياة طعم بعد موت شقيقي بشار، وإصابتي بفشل كلوي نتيجة التجويع والمياه الملوثة بفعل الحرب”.

يضيف محمد: “مات أخي بشار بسبب المياه والازدحام في المستشفيات وقلة الأدوية، مات دون أن يودّعنا، مات شهيدًا ولم يكتبوا أنه شهيد، وبقيت أنا في قسم غسيل الكلى، يومان أسبوعيًا، ثمانِ ساعات أسبوعيًا”.

بالكاد يستطيع محمد التقاط أنفاسه، بصعوبة يكمل: “منذ إصابتي بالمرض لا أشعر أني أعيش مع إخوتي سراج (15 عامًا) ورفيف (9 سنوات)، ولا حتى أشاركهم لعبهم وحديثهم، أخرج منذ الصباح مرة مع أبي ومرة مع أمي، وعند عودتي أحاول استعادة قوتي لكن الليل يأتي مسرعًا، يحاول سراج الجلوس بجانبي، ومرافقتي أمام الخيمة، لكن التعب يمنعني”.

تقاطعه أمه: “حتى الحصول على المياه المعدنية ليس سهلًا، الطعام هو الحلقة الأضعف هنا، تكلفته عالية، والمعلبات أوزعها على الناس بعد منع الأطباء تناولها بسبب مرض ابني”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى