استشهدت جدّتها في الطريق لن تنجو ذاكرة الطفلة (ديما) من (طين النزوح)
استشهدت جدّتها في الطريق
لن تنجو ذاكرة الطفلة (ديما) من (طين النزوح)
دير البلح- هيا بشبش:
تتشبّث بـ(كيلو) من الطحين خشية أن تتلفه مياه الأمطار، “بابا تعب لما جابو”، تتعثّر بالحفرِ الطينية المختلطة بمياه الأمطار، والتي حفرها جيش الاحتلال الإسرائيلي آمرًا النازحين في المدارس بسلوك هذه الطرقات المجرّفة، حافية القدمين بعدما علِق حذاؤها في الطين، وعيناها ترقب من بعيد عمّتها وجدّتها اللتان ستعرف مصيرهنّ لاحقًا!
إنها الطفلة الفلسطينية ديما أبو سكران (9 سنوات)، والنازحة من حي الشجاعية شرق مدينة غزة، إلى دير البلح وسط القطاع، سالكةً ما وصفته بـ “طريق الموت”.
في تفاصيل الحكاية، فقد أعلنت إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م الحرب على قطاع غزة، وأجبرت بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين، لكن عائلة ديما أصرّت على البقاء في الشمال، حتى أُجبروا على النزوح!
داخل خيمةٍ من النايلون الأبيض بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تقيم حاليًا عائلة الطفلة ديما المكوّنة من أمها سمية وإخوتها: تسنيم (6 سنوات) حسين (4 سنوات) ومحمد (4 شهور)، دون أبيهم الذي اعتقله الاحتلال، تروي ما حدث معها منذ بدء الحرب الإسرائيلي على قطاع غزة.
تقول: “استيقظت يوم 7 أكتوبر/تشرين الاول مبكرًا لأدرس لاختبار الرياضيات قبل الذهاب للمدرسة ظهرًا، قطع دراستي صوت القصف، خوف ورعب عشناه أنا وإخوتي، في اليوم الثاني نزحنا من بيتنا في حي الشجاعية إلى منزل جدّي في قرية المغراقة جنوب مدينة غزة مدة أسبوع، وهناك تعرضت المنطقة للقصف والأحزمة النارية، عدنا للشجاعية لتستقبلنا القذائف”.
بعد العودة إلى الشجاعية، عايَشت ديما وعائلتها النزوح تلو النزوح، من مدرسةٍ في حي التفّاح إلى شقةٍ في منطقة النفق غرب مدينة غزة، ثم العودة إلى التفاح، ليكون آخرها مدرسةً في حي الرمال وسط مدينة غزة، قبل أن يقتحم جيش الاحتلال المدرسة.
تصف ديما المشهد: “يوم 28 يناير/كانون الثاني 2024م، أمي كانت تراقب بحذر تحرك الدبابات خارج المدرسة من خلال النافذة، سبق ذلك بقليل إطلاق نارٍ شديد وأحزمة نارية، وقصف مدفعي، بدأ ذلك ليلًا بعد وصولنا للمدرسة مباشرة، كل ذلك وأنا وإخوتي ومجموعة من الأطفال في زاوية الفصل الدراسي”.
تصمت قليلًا كأنها تعيد تذكّر ذلك اليوم وتقول: “بابا ومجموعة من الشباب طلعوا من المدرسة أول ما سمعوا صوت الدبابات عشان بطخّوا الرجال”، وفي وقت الفجر اقتحمت الدبابات المدرسة، وبصوت عالٍ أمرهم الجنود بالنزول إلى الساحة، فصلوا الرجال وكبار السن عن النساء والأطفال، وقسموا المتواجدين لمجموعات”.
تكمل: “جدتي وعمتي بمجموعة بعدنا، أمرونا بالنزوح للجنوب، علت أصوات النساء معترضات، هنا أطلقت (الكواد كابتر) أول صاروخ ليستشهد أحد الرجال، وبدأنا التحرّك، كنا نمشي والطيارة فوق روسنا”.
مرغمون، تحت تهديد الطائرات المسيّرة “الكواد كابتر” خرجت والدة ديما بأطفالِها من مدرسة الرمال التابعة للأونروا في مدينة غزة، وبعد تشتيت شمل العائلة بمجموعاتٍ متفرقة، وصلت العائلة إلى الجنوب بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2024م.
شاهدت ديما وعائلتها الرجال الذي اعتقلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي من المدارس المجاورة، مكبّلي اليدين والقدمين بالملابس الداخلية فقط، يحيطهم الجنود ويعتدون عليهم بالضرب، سمعت استغاثة من بقوا في بيوتهم التي حاصرها جيش الاحتلال، تشير إلى رُكبتها وتقول: “لهان وصل الطين، كل الطريق محفّرة، الشتا فوقنا، ما كنا قادرين نمشي أنا وإخوتي، غرقنا كلنا في الطين”.
انتزعت بِرك الطين أحذيتهم وتركتهم حفاة الأقدام، يتعثّرون بصغر سنّهم، رحلةٌ شاقة على الكبار، فكيف بالنسبة لمن لم يتجاوزا العشر سنوات، الصغير حسين (4 سنوات) قضى الطريق وهو يبكي، ويطلب من أمه أن تحمله، خاصةً أن جيش الاحتلال أمرهم بالسير على الشاطئ رغم البرد الشديد والأمطار، وجثث مارّة لم يكلموا الرحلة، جميعها أسباب لم يستوعبها الصغار.
تستدرك ديما:” أنا ما بحب البحر، كله ميتين، بعد تعب شفنا الحاجز، كان يفصله عنّا تلة طولها متر ونصف تحتها حفرة من الطين، غرقت أنا وأمي وإخوتي في الحفرة، لم نتجاوزها إلا بمساعدة طفل، عمره 12 عامًا كما أخبرتنا والدته التي غرقت في حفرة أخرى، وساعدها على الخروج، وبعد ذلك ساعدنا أيضًا، وبعد الحاجز كان المشهد أصعب”.
سمية: الجيش ما قِبِل أقف دقيقة أرضّع طفلي
سمية والدة ديما أصبحت وحدها مسؤولة عن صغارِها في ظل غياب والدهم القسري والذي بقي في مدينة غزة، تقول: “شفت جثث كتير، وكلب شدّ جثة من رجلها، حاولت ألا يرى صغاري هذه المشاهد، ولكنها كانت في كل مكان، الجيش ما قِبل أقف دقيقة أرضّع طفلي”.
بعد الحاجز وصلت سمية مدخل النصيرات السابعة والنصف مساءً يوم 29 يناير/كانون الثاني 2024، وقرب مدخل المخيم استقبلهم شابٌ واصطحبهم إلى مدرسةٍ في المخيم، تأوي النازحين، وفي اليوم التالي تواصَلت مع والدها لتنتقل إلى خيمةٍ في مدرسة الصلاح بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
تشير سمية إلى داخل خيمتها الصغيرة وهي تكمل: “هذه الخيمة كانت الخَلاص بعد الرحلة المميتة، عند وصولي أرضعتُ صغيري الذي منعني جيش الاحتلال أن أقف دقيقة لإرضاعه، وكان اللقاء مع أهلي بعد طول غياب فهم نازحون في ذات المدرسة”.
تكمل: “بعد وصولي واستقراري في المدرسة بدأتُ أبحث عن والدة زوجي وأخته، أيامُ انتظارٍ طويلة وبحث عنهن، لقد كانوا في المجموعة التي تلينا، بعد أن قسّمنا الاحتلال لمجموعات، عشر نساء في كل مجموعة، عرِفْت مكان أخت زوجي في 5 فبراير/شباط 2024م يعني بعد أسبوع كامل من نزوحي للجنوب “.
تحتضن سمية صغيرها محمد وهي تكمل: “وصلتني رسالة من شقيقة زوجي أنها نازحة في مدرسة بالنصيرات، أما والدة زوجي استشهدت في طريق النزوح وضلت جثّتها متروكة على شاطئ بحر مدينة غزة، بعد أن عانت الكثير من طول الطريق وكثرت العقبات التي واجهتها وكان الأصعب تدهور حالتها الصحية خاصة وأنها تعاني من أمراض مزمنة”.
واستشهد منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حتى منتصف أكتوبر 2024م نحو 42 ألف فلسطينيةً وفلسطينيًا، نحو نصفهم من الأطفال والنساء، كما أصيب ما يزيد عن 91 ألفًا.
صدمات متتالية عاشتها سميّة، أشدّها اعتقال زوجها في ١٩ مارس/آذار 2024م في اقتحام مستشفى الشفاء الطبي بعد انقطاع الاتصال به لمدة شهرين، تقول: “أخبرنا أحد الأسرى الذين أُطلق سراحهم أن زوجي كان متواجدًا معه في نفس السجن”.
ويتعارض ما تعرضت له عائلة الطفلة ديما مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت في مادتها الثالثة الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية للأشخاص المحميين وخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب وأخذ الرهائن والاعتداء على الكرامة الشخصية للأفراد.
كما حظرت المادة (49) من الاتفاقية النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين، كما نصت المادة (16) أن يكون الجرحى والمرضى كذلك العجزة والحوامل والأطفال موضع حماية واحترام خاصين، وتسهيل إجراءات البحث عن القتلى والمرضى والجرحى.
ديما: كان نفسي يكون بابا موجود
عودة إلى ديما التي استأنفت حديثها بوصف الحياة داخل الخيمة: “لا أستطيع دخول الحمام، حمامات المدرسة بعيدة عن الخيمة ومكتظة دائمًا وغير نظيفة بسبب العدد الكبير، وأعاني من الحر الشديد جدًا الآن، نجلس أثناء النهار خارج الخيمة”.
تستذكر ديما مجددًا ما حدث معها يوم النزوح، فهو لا يفارق خيالها: ” رأيت جدتي في أول الطريق، كانت آخر مرة لي أراها عندما وصلنا الشاطئ، بعد ذلك تفرقنا، حركة جدتي بطيئة، لم يصلوا للحاجز معنا، سألت أمي عنها ووعدتني أنها ستبحث عنها، لكن جوال عمتي مغلق لم نستطع التواصل معها”.
تبكي ديما على جدّتها وهي تواصل سرد ما حدث: “صحيت من النوم لقيت الكل ببكي، عرفت منهم أن بابا أرسل رسالة يخبرنا مكان عمتي وأن جدّتي استشهدت في الطريق، بكيت عليها كتير، لأن بحبها جدًا، كنت رفيقتها في كل مكان تذهبه، كل يوم صباحًا عندما أستيقظ أدعو لها بالرحمة أذكرها دائمًا في حديثي مع ماما ومع إخوتي”.