عكازٌ واحد و(ووكر) يسندان الزوجان (بتمنى أروح على حيّ الصبرة)… كوابيسٌ تلاحق (عزيزة) في نزوحها
عكازٌ واحد و(ووكر) يسندان الزوجان
(بتمنى أروح على حيّ الصبرة)… كوابيسٌ تلاحق (عزيزة) في نزوحها
خانيونس – دعاء برهوم:
“شالوني طول الطريق حتى وصلنا الحاجز ومرّينا عن الحلّابات”.
بهذه الكلمات بدأت الحاجة عزيزة ريشة (67 عامًا) تروي معاناتها التي امتدت على مدار (10) أشهرٍ من رحلة نزوح شاقّة، بحثًا عن الأمان المفقود منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
تقول الحاجّة التي نزحت من حي الصبرة وسط مدينة غزة، إلى خيمةٍ من القماش المهترىء في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة: “كان لنا بيت متواضع نصفه من ألواح الزينكو والنصف الآخر من الباطون المسلّح، كانت تحفنا الألفة والمحبة، لكن “الفقر لابسنا لِبس من زمان بس الحمد لله”.
الحاجة عزيزة: ما كان بدنا نطلع من الدار لكن أولادي أحمد ومحمود أقنعوا أبوهم وطلعنا
تسند عزيزة ظهرها إلى عمود خشبي وسط خيمتها بمواصي خانيونس، وهي تروي كيف استشهد حفيدها بسبب نقص الدواء، ونزوحها 5 مرات، أولها يوم 26/11/2023 عندما أطلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية صواريخها بشكلٍ عشوائي على منطقة سكنِها وبِدء الجيران بالإخلاء للنجاة بأسرهم وأرواحهم، بعد استشهاد العديد من الأشخاص وتناثر أشلاءهم في الشارع.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي، أعلن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م الحرب على قطاع غزة، وسرعان ما أجبر العائلات الفلسطينية من سكّان شمال القطاع على النزوح جنوب وادي غزة يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، لكن ثمّة عائلات أصرّت على البقاء، إلا أن مئات الآلاف منهم نزحوا لاحقًا مثلما حدث مع عائلة عزيزة.
تمسح دمعة سقطت على وجنتيها: “ما كان بدنا نطلع من الدار لكن أولادي أحمد ومحمود أقنعوا أبوهم وطلعنا”، فبعد شهرٍ ونصف من الحرب، كان زوجها الحاج محمد ريشة (74 عامًا) مصرًّا على البقاء في البيت بسبب عجزهم عن المشي لمسافات طويلة، لكن أبناءه أقنعوه، فهو يسير على كرسي متحرّك، وزوجته عزيزة تستخدم أداة مساعدة (ووكر).
ويتنافى ما حدث مع عزيزة مع المادة (17) من اتفاقية جنيف عام 1949 التي أقرت نقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال والنساء النفاس إلى أماكن آمنة، كما ونصت المادة (22) احترام وحماية عمليات النقل.
الحاجة عزيزة: بتمنى أروح على الصبرة ما بدي أنزح تاني
عزيزة هي أمٌ لـ (11 ابنًا) و لديها (35 حفيدًا)، نزحت بهم جميعًا إلى جنوب قطاع غزة، في محاولة للنجاة بحياتهم، حطّت رحالها أول مرة في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة لليلتين في الشارع، تقول:”قعدنا يومين بالشارع ما عرفنا وين نروح لحدّ ما الأولاد لقوا مكان”، بعدها نزحت إلى خانيونس في فصل بأحد مراكز الإيواء (مدرسة)، كانت حياة صعبة ولكن “مجبورين نعيشها”، تقول عزيزة.
حياة النزوح بالمدرسة شاقّة، تفتقد للخصوصية، كما تصفها عزيزة وتكمل: “أنا مريضة سكري وكل دقيقة بحتاج أروح ع الحمام، الطابور على دورات المياه طويل جدًا، بانتظر لحد ما ييجي دوري، هذا غير التخبيط على الباب مع كلمة يلّا خلصوا، فلا راحةَ في بيت الراحة”. الأصعب من ذلك انتشار الأمراض المعدية بسبب تكدّس النازحين، والدخان المتصاعد من أفران الطين التي أثّرت عليها بشكل كبير.
بعد شهرين، في 3 يناير/كانون الثاني 2024م، ألقت طائرات الاحتلال مناشير تطالب بإخلاء المدرسة، فكان نزوحهم الثالث إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة، في خيمة بمنطقة بركسات الوكالة غرب المدينة، “عيشة الخيمة جهنّم في الصيف وموت من السقعة في الشتا، هذا غير الحشرات اللي طول اليوم تقرّص فينا”، تقول عزيزة.
تضيف: “خمس شهور عشناها في رفح، حتى اجتاح الاحتلال المدينة يوم 7/أيار مايو 2024م، نزحنا إلى مواصي خانيونس، بتمنّى أروّح على حي الصبرة ما بدي أنزح تاني، النزوح صعب ومهلك للجسد والصحة وهدر للمال”.
عزيزة: الدكاترة حكوا حافظوا على رجله بلاش يتم بترها زي الرجل التانية
تقلّب الجدّة عزيزة صورًا لإحفادِها على الهاتف المحمول، ومعهم الصغير (محمد) الذي كان يلهو بينهم ذات يوم. تمسح دمعتها بمنديلها وتوضح : “محمد كان عمره عام ونصف، وُلد بوضع صحي غير مستقر، نتيجة فيروس في الجسم، يتلقى كل ثلاثة أشهر علاجًا في الضفة الغربية، كان موعد انتقاله إلى هناك في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2023م، الحرب حصدت روحه في 20 يناير/كانون الأول 2024م بعد تدهور صحته”.
تأخذ عزيزة نفسًا عميقًا وتكمل: “أنا مريضة بعدةِ أمراض، أجريت عدّة عمليات منها استئصال الرحم وعملية قلب مفتوح، باخد 18 حبّة دوا، زوجي مريض سكّر من سنة 2018، ونتيجته إنه بيصاب بغيبوبة، خلال عملية النزوح التهب جرح في قدمه أدى إلى غرغرينا وبتر في ساقة اليمنى، وأخشى على قدمه اليسرى من البتر بسبب الجراثيم المنتشرة في الخيمة، والرمل في كل زاوية، وعلى قدّ ما نكنّس ع الفاضي، الدكاترة حكوا حافظوا على رجله بلاش يتم بترها زي الرجل التانية”.
تتنهد بحزن “ما في أي معقمات ولا أدوات نظافة، اضطررنا نستخدم البريل المصنّع محليًا بدل الشامبو والصابون في الاستحمام، وأصبنا بسببها بحبوب في الجلد وبقع بنية، فمواد التنظيف بمختلف أنواعها معدومة في السوق بسبب إغلاق المعابر، وإذا وُجدت تكون بأسعار خيالية”.
في الخيمة، تخوض عزيزة حربًا أخرى لتوفير متطلبات الحياة لزوجها، تقول: “أبو مصباح كالأطفال، كل حاجة بدو إياها”، فهذا عبء كبير أُلقي على كاهلي، كان قبل الحرب يعمل حارسًا لأحد البنايات وكنا نعتاش منها، لكن في الحرب توقف عن العمل، والغلاء الفاحش حرمنا أبسط المتطلبات “صعب علينا العيشة وصرنا نخوض حربين، نعتمد كليًا على المساعدات والتكيات، ومع ذلك مصاريفنا زادت فكل زيارة للمستشفى مكلفة”.
أحمد ابن عزيزة: على أساس نرجع بعد أسبوعين أو ثلاثة بس طولت
يجلس بجوار عزيزة ابنها الأصغر أحمد (30عامًا)، يروي ما حدث ليلة إجبارهم على النزوح من حي الصبرة إلى الجنوب: “استيقظت ليلًا على صوت قصف وانفجارات، ارتعبنا جميعا، حضنتُ أطفالي الثلاثة عزيزة (6 سنوات)، معتصم (5 سنوات) ولمياء (عام واحد)، حتى بزغ الصباح وأقنعت والدي بالنزوح، حملنا أشياء بسيطة، على أساس نرجع بعد أسبوع او أسبوعين أو ثلاثة، ولكن دخلنا الشهر 11 ولسة ما رجعنا”.
“خمس ساعات مشي على رجليا وأنا بدفع كرسي والدي المتحرّك قدامي، حتى وصلنا حاجز نتساريم العسكري جنوب مدينة غزة، تركنا الكرسي خلفنا وحملنا والدي أنا وأخي محمود حتى وصلنا المنطقة الوسطى، شاهدنا خلال نزوحنا جثث شهداء متحللة على الرصيف”.
أحمد الذي يعاني من مشكلة في سمعه نتيجة إصابة عمل في فكه الأيسر، يقول :”كنت أرى جنود الاحتلال يتعمدوا إطلاق النار على الناس المارين بالحاجز، في ناس خافت ورجعت على غزة، احنا ضلينا مكملين للجنوب”.
ويُعدُّ ما تعرّضت له عزيزة وعائلتها انتهاك من قبل الاحتلال الإسرائيلي لاتفاقية جنيف الرابعة التي ضمنت الحماية للمدنيين وممتلكاتهم وقت الحرب والنزاع المسلح، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين، كما ويتنافى مع المادة (59) التي سمحت بإغاثة السكان وتوفير ما يلزمهم من إمدادات طبية وملابس وغذاء.
على باب الخيمة تجلس الحفيدة فداء (9أعوام) استبدلنا طابور المدرسة الصباحي بطابور المياه لساعات، “بعد ما نعبي مية بيجي طابور التيكية” للحصول على ما يسد جوعنا من الطعام المطبوخ من المعلبات التي هتكت أجسادنا.
ويتنافى ما حصل مع فداء، مع اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل لعام 1989م التي أكدت على حق الأطفال بالمعيشة في ظروف آمنة وصحية.
لم تتوقف معاناة فداء عند هذا الحدّ، بل إن هاجس الفقد لاحقها عندما فقدت شقيقها الطفل مُحمد (عام ونصف) نتيجة نقص الأدوية في المستشفيات فتوقف قلبه الصغير وفارق الحياة.
تكمل: “نفسي أصحى من هالكابوس ونرجع للمدرسة وتنتهي هاد المعاناة”، في الحرب كبرنا أكبر من عمرنا وتحملنا أكثر من طاقتنا، فمع كل انفجار نرتعب ونخاف أن نفقد حياتنا ونكون من أعداد الشهداء”.
عودة إلى عزيزة التي تختم: “ما عمرنا طلعنا من دارنا، ولا شفنا بهاد الإجرام”، من قتلٍ لآلاف الأطفال والنساء، وطحن أجسادهم تحت الدبابات وأنقاض منازلهم لشهور وما حدا قادر يطلعهم، الاحتلال دمّر كل شيء في القطاع “.