حنين تبكي عائلتها.. “لقد رحلوا جميعًا”

النصيرات – فدوى عبد الله

“مين بقى لي، لو وقعت مين يسندني، لو متّ مين يدفنّي ويقرأ الفاتحة عليّ”.

كانت هذه الكلمات مشهدًا في مسرحية سياسية ارتجالية قدّمته الفنانة حنين الخضري (23 عامًا)، ضمن مسرحية شاركت فيها بدورِ أمٍ فقدت أبناءها وظلّت وحيدة، وذلك قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، دون أن تتوقعه أنها ستعيش مشهدًا مشابهًا في الحرب!

تُقارن حنين الناجية الوحيدة من مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق عائلتها في مدينة غزة، وكل شيء تحدثته في المسرحية قبل الحرب بأيامٍ، بقولها: “في الحالتين بقيت وحيدة بلا عائلة ولا أمل”.

غيبوبةٌ يتبعها غياب، هكذا تلخّص حنين الناجية الوحيدة والشاهدة على موت (18) فردًا من عائلتها، تتجرّع آلام الفَقْد والنزوح والإصابة بورمٍ في الرأس نتيجة الإصابة وغياب الرعاية الصحية.

بصعوبةٍ تعدّل حنين وضع رأسها على الوسادة في غرفة ببيت أحد أقاربها بمدينة النصيرات وسط قطاع غزة، وتروي بكلمات متقطّعة ما حدث معها: “يوم 18 أكتوبر 2023، قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزلًا مجاورًا لبيتنا، وأصبنا جميعًا، وبيتنا تدمّر بشكل كامل، فانتقلنا لبيت عائلة جدّي لأمي”.

وكانت إسرائيل، أعلنت يوم 7 أكتوبر الحرب على قطاع غزة، تبعَها بعد أسبوعٍ إجبار مئات آلاف الفلسطينيين من سكّان شمال القطاع على النزوح إلى الجنوب، في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري للمدنيين، كما تحظر الاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، لكن حنين وعائلتها كانوا ضمن من أصروا على البقاء في بيوتهم.

 

تكمل: “خرجت مستشفيات شمال القطاع عن الخدمة، فانتقلت زوجة أخي وأختها إلى الجنوب للعلاج، وبقي أطفالهن معنا، وعجز البقية عن المغادرة بسبب الإصابة”.

ويخالف ما تعرّضت له العائلة مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، خاصة المادة (17) التي تدعو أطراف النزاع إلى إقرار ترتيبات محلية لنقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال وأفراد الخدمات الطبية إلى مناطق توافر الخدمات الصحية.

يوم (3) ديسمبر 2023، تعرّض المنزل الذي نزحوا إليه للقصف الإسرائيلي، موقعًا مجزرةً راح ضحيتها (18) فردًا بينهم والديها وإخوتها الأربعة واثنتين من زوجاتهم وأحفادهم وأختها، أما هي فدخلت في غيبوبةٍ لكنها لم تمكث في المستشفى سوى ربع ساعة لتقطيب جروحها، دون الكشف عن الشظايا والحروق في جسدها، وانتقلت إلى بيت خالتها التي أجبرت على النزوح أيضًا.

تحبس أنفاسها وتطلق زفرةً وتنهيدة وتكمل:” أخبروني أن أختي التي كانت تنام بجواري على السرير سقطت على الأرض وأن إصابتها قاتلة، وأنا وقعت بين أغصان شجرة زيتون”.

علمت حنين باستشهاد عائلتها بعد (35) يومًا من رحيلهم، بسبب صعوبة وضعها الصحي، وعدم وعيها بشكل كامل لما يدور حولها سوى هلوسات وسؤال دائم عن العائلة.

تكمل: “رأيت ابني خالتي يوسف وسألته عن أهلي، كان يبكي، أدركت ما حدث، غبت عن الوعي مجددًا، وغاب يوسف”.

كان صيدليٌ تحت التدريب يتابع حالة حنين، ويُخرج الشظايا والعيدان من جسدها، أخرج زجاجًا من أذنيها، وهذا ساعدها بشكل كبير على التعافي كما تروي، ولكن ظلّت بحاجة لرعاية طبيةٍ خاصة، وكان عليها النزوح إلى جنوب قطاع غزة.

تعدّل رأسها مجددًا على الوسادة وتكمل: “حين عرفت بضرورة النزوح خفت من مشاهدة جيش الاحتلال، كيف سأمشي أمامهم، في حياتي لم أشاهد دبابة، سمعت روايات عن أشخاص تم اعتقالهم”.

السادسة صباحًا، توجّهت حنين إلى غرب مدينة غزة، لتسلك طريق البحر باتجاه الجنوب، وصلت الحاجز، طلب منها الجنود إبراز هويتها ثم أمروها بالتوجّه إلى اليسار، تكمل: “سرت بجسدي الهزيل بلا ماء وحيدةً أجتاز الطريق، دمارٌ في كل مكان، واجهت هبّات أمواج البحر التي تحمل رائحة الجثث المنتشرة على جانبي الطريق، ذكّرني بمشهد من بقي من أهلي تحت الأنقاض”.

نزحت حنين إلى أعمامها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، فهم لم يستطيعوا توديع شقيقهم (والدها)، لتمضي وهي مصابة مرهقة نتيجة الحروق والشظايا في يديها وظهرها، تعاني الإعياء بسبب ثقل الحقيبة على كتفها المصابة، أما الحياة داخل الخيمة فكانت قاسية خاصة أنها بحاجة لرعاية طبية وراحة لا يمكن توفّرها في الخيمة، رغم كل المحاولات التي بذلها أعمامها.

اكتشف الأطباء ورمٌ في رأس حنين لم يستطيعوا تحديده، إضافة لمشكلة في الأذن، وحاجة ظهرها لعملية تجميل وإخراج ما تبقّى من زجاج، وأصبحت كما آلاف غيرها من مرضى قطاع غزة، محرومة من حقّها في العلاج بالخارج بسبب إغلاق معبر رفح منذ بدء العملية العسكرية في رفح أوائل مايو 2024.

لا تحتمل حنين رؤية الأطفال حولها، وأبناء أخيها ليسوا بينهم، لقد كانوا ثمانية أحفاد، لكل شخص مكانة خاصة في قلبها، وكلما رأتهم أوجعها الشوق لمن تحت التراب، فوجدت ضالتها في مشاركة أعمال تطوعية كرسم الجداريات وتوزيع المواد الغذائية، فهي ناشطة عملت قبل الحرب ضمن فريق تحريك وصناعة الدمى (الماريونيت)، الذي ينفذ سلسلة من العروض المسرحية للأطفال مع مركز التنمية والإعلام المجتمعي.

مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح، انتقلت حنين إلى منزل أقاربها في النصيرات، وفي الوقت الذي ترغب فيه البحث عما يريح قلبها، لا تمتلك الإمكانيات التي تساعدها على ذلك، لتضع يدها على قلبها وتقول: “هنا الكثير من الوجع والحسرة، الفكرة ذاتها جدًا موجعة، لقد رحلوا جميعًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى