انقطعت المياه وبقي البحرُ ملاذًا لـ(صابرين)
دير البلح – خديجة مطر :
بوجهٍ عابسٍ تجلسُ صابرين مقداد (37 عامًا) على شاطئ بحر دير البلح جنوب قطاع غزة، تراقب تلاطُم أمواج البحر، وبين يديها قطعةُ قماشٍ باليةٍ كانت – ذات يومٍ- ثوبًا زاهيًا يزين جسد طفلها، قبل أن تنهكه ملوحة مياه البحر، لكن بهتَ لونُها الآن وغابت نقوشَه، كأنه يحمل ندباتِ واقِعها المرير!
صابرين هي نازحة من مدينة غزة، إلى منطقة (دوار 17) قرب شاطئ بحر دير البلح، تروي تجربتها مع النزوح وشحّ المياه الذي أجبرها على اللجوء إلى استخدام مياه البحر وما تركَه من آثارٍ سلبيةٍ عليها.
تقول السيدة وهي أم لتسعةِ أبناء: “نزحت هنا منذ شهرين برفقة عائلتي وزوجي المريض المصاب بالربو، داخل خيمة صغيرة، وهو النزوح السابع لي منذ بدأ العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023، ليستقر بنا الحال داخل هذه الخيمة المهترئة بعد فقدان الأمل بأي مكان آخر، وبديلًا عن النوم في العراء”.
بدأت مراحل نزوح صابرين وعائلتها من بيتها بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، صوب مدرسةٍ تابعة لوكالة الغوث، لكن استهدفت فوق رؤوسهم، فنزحوا نحو عيادةٍ تابعةٍ أيضًا للوكالة، وتم استهدافهم بالضرب والتنكيل من قبل الجيش الإسرائيلي، في مخالفةٍ لاتفاقيةِ جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، التي تحظر في مادتها الثالثة الاعتداء على السلامة البدنية للأشخاص المحميين والاعتداء على الكرامة الشخصية لهم، كما تحظر الاتفاقية النقل القسري للمدنيين.
تكمل صابرين بينما تواصل غسيل ملابس عائلتها في البحر: “أُجبرت تحت القصف وإطلاق النار على كل شيءٍ يتحرك؛ للنزوح إلى جنوب قطاع غزة سيرًا على الأقدام، لأكثر من تسع ساعات برفقة أبنائي التسعة، مكثنا في مركز إيواء بالمغازي، تجددت المعاناة بنزوحٍ جديد حتى وصلنا هنا، حياةٌ مليئةٌ بالمخاطر والأمراض والنقص الحادّ في المياه”.
تتنهد بعمقٍ بينما تحكي كيف تُجاهد من أجل إكمال حياتها، حتى بات البقاءُ على قيد الحياة بالنسبة لها انتصار، فأبسط الحقوق وهو المياه غير موجودة، ويتم توفير كميات ضئيلة من مياه الاستخدام المنزلي ومياه الشرب بصعوبةٍ بالغة، خاصة في منطقة نزوحها التي يعتمد فيها النازحون على مياه البحر بشكلٍ رئيسي، ويتم توفير مياهُ سبيلٍ من فاعلي خير مرةً أسبوعيًا.
تنتظر صابرين وزوجها المريض لساعاتٍ طويلةٍ أمام شاحنات مياه السبيل بين طوابير من عشرات المصطفّين لملءِ غالونات المياه، يحالفهم الحظّ أحيانًا بالتعبئة، وأحيانًا يفقدون هذا الحق، فالمنطقة مكتظةٌ بالنازحين والخدمات شبه معدومة، فكانت مياه البحر بديلًا أُجبر الناس عليه للتعايش مع واقعهم الجديد، إذ تغيب الإمكانات المادية لشراء خزانات مياه كبيرة، وزوج صابرين متعطّلًا عن العمل منذ ما قبل الحرب.
أزمة المياه تفاقمت في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر، بسبب انقطاع الكهرباء وعدم القدرة على تشغيل المولدات لنفاد الوقود، وتعمل محطات تحلية المياه بشكل جزئي، فيما لا يتمكّن المواطنون من تشغيل الآبار الجوفية للسبب ذاته، وزاد من خطورة الوضع نزوح نحو مليون مواطن من شمال القطاع إلى جنوبه.
بحسرةٍ تروي صابرين تفاصيل يومها: “يبدأ نهاري بجلب جالونات مياه البحرِ المالحةِ إلى الخيمة، أو إحضار وجبات الغسيل وأدوات المطبخ لأقوم بغسلها والانتهاء من أغلب أعمالي المنزلية على الشاطئ، تضاف إلى معاناة النزوح أزمة الالتهابات الجلدية والتصبّغات والأوبئة وتقلصات المعدة والقيء والإسهال المتكرر”.
بينما كانت أشعة الشمس تغيب، ومياه البحر تشاركها الأحزان، تروي صابرين أن مياه البحر تؤثرُ على الأواني والملابس سلبًا، كما تبقى الأتربة عالقةً في الملابس بعد غسلها، مبينةً أنها ترسل صغارها غالبًا للاستحمام في البحر وسط خوفٍ شديد من انتقال عدوى الفيروسات والأوبئة لهم.
تواصل: “مياه البحر غير مناسبة لكن هذا هو المتاح ولا خيارات أمامنا، يضطر زوجي وأبنائي أحيانًا للسير مسافات طويلة بحثًا عن مياه، ولكن نعتمد مياه البحر بشكل رئيسٍ لتخفيف أزمتنا”.
ما يزيد الحسرة في قلب صابرين، إن صغارها لا يملكون ثمن لترٍ واحدٍ من مياه الشرب التي ارتفع ثمن الجالون منها إلى أربعةِ شواقل، وجالون واحد يوميًا لا يكفي أسرتها الكبيرة، فيضطرون لشرب مياه البحر المالحة وغير الصحية.
رفعت صابرين رأسها ونظرت إلى البحر بابتسامة خافتة وهي تقول: “أحاول -رغم كل شيءٍ- تأمين بعض الاحتياجات من خلال بيع شرائح الشيبس المصنوعة من الدقيق وبعض المنكّهات للنازحين، تقف صغيرتي التي لا تتجاوز 10 سنوات تحت أشعة الشمس الحارقة لتبيع الشيبس، وتوفّر للعائلة دخلًا لا يتجاوز 30 شيقلًا يوميًا (نحو 9$).
تعدُّ صابرين نفسها رمزًا للتحدّي بينما تناشد العالم وقف الحرب المدمّرة ووقف الكارثة الإنسانية في قطاع غزة.