أمهات صغيرات وظهرّ محنيّ قبل الأوان
غزة/ بقلم: مصطفى دوحان
بينما كانت آلاف الفتيات يتوجّهن صباحًا إلى مدارسهن مسرِّحات شعرهن بالضفائر، ثمة فتيات غادرن هذه الفصول كالعصافير المخذولة التي طُردت من أعشاشها الدافئة إلى بيوت التزويج المبكّر الذي لا تقوى عليه أجسادهن، فررن من ويلات الفقر إلى نار المسؤولية المبكرة.
تنظر أحلام (اسم مستعار) إلى صورة فوتوغرافية التقطت لها قبل زواجها، حين كان وجهها مشرقًا وملامحها طفولية بريئة، تبدّلت إلى جسدٍ هزيلٍ ووجهٍ نحيلٍ وعينين غائرتين تحملان أكوامًا من التعب.
تروي أحلام لمركز الإعلام المجتمعي قصتها: “كنت في الرابعة عشر من عمري حين تقدّم لخطبتي فتى عمره 18 عامًا، للتخلص من عبء نفقاتي بسبب الديون المتراكمة، ولم يأخذوا بالاعتبار صغري وطفولتي واشتياقي لعروستي”، لكن مشاكلها الزوجية بدأت منذ الأسبوع الأول لزفافها بسبب متطلبات الزوج الصغير التي لم تتمكن من تلبيتها لصغر سنها.
تعرضت أحلام لأزمةٍ صحيةٍ نتيجة حملها في سنٍ صغيرة، اضطرت للخضوع لولادةٍ قيصرية، وبعد أربع ساعاتٍ من الصراخ والألم أنجبت طفلًا غير مكتمل النمو، كانت هذه الصدمة تفوق طاقتها، فأرادت الهرب من كل هذا، فرّت من منزل زوجها وصرخت في وجه الجميع “أريد الطلاق”.
عندما بلغت أحلام 18 عامًا حصلت أخيرًا على الطلاق، وهي أيضًا في سن الطفولة، ونتيجة لتجربتها القاسية لا تشعر برغبةٍ في تجربة الزواج من جديد، فما حدث كان مريعًا.
ورغم تراجع نسبة التزويج المبكر للصغيرات في فلسطين إلى 20% وفق إحصائية عام 2018 بواقع (19% في الضفة الغربية و21% في قطاع غزة)، إلا أن النسبة ما زالت مرتفعة، ورغم صدور قرارٍ بقانونٍ في الضفة الغربية يمنع تزويج القاصرات إلا أنه منح استثناءاتٍ للقاضي.
أصدر الرئيس محمود عباس القرار، بتاريخ 3/11/2019، (قرار بقانون (21) للعام 2019 معدل للتشريعات الناظمة للأحوال الشخصية بشأن تحديد سن الزواج في دولة فلسطين)، الذي نصّ في مادته (2) على “يشترط في أهلية الزواج أن يكون طرفا عقد القران عاقلين، وأن يتم كل منهما ثمانية عشرة سنة شمسية من عمره”. وجاء هذا القرار بعد تنسيب مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته التي عقدت في 21/10/2019 بتعديل المادة (5) من قانون الأحوال الشخصية للعام 1976، القاضي بتحديد سن الزواج ليصبح 18 سنة لكلا الجنسين، مع استثناءات يقررها قاضي القضاة.
ما في المحافظات الجنوبية (قطاع غزة)، فتُطبق المحاكم المختصة قانون حقوق العائلة رقم (303) المصري للعام 1954، التي تنص المادة (5) منه على “يشترط في أهلية النكاح أن يكون سن الخاطب ثمانية عشر سنة وسن المخطوبة سبعة عشرة فأكثر”، غير أن القانون أورد استثناءً على هذه القاعدة، وهو السماح للقاضي بتزويج الفتاة التي تتجاوز سن التاسعة من عمرها والفتى الذي تجاوز سن الثانية عشرة من عمره، بحسب نصّ المواد (6) و(7) و(8) من قانون حقوق العائلة.
ولقد لقى قانون رفع سن الزواج الى 18 سنة شمسية قبولاً واسعاً لدي كل فئات الشعب الفلسطينية والمؤسسات الاهلية والحقوقية.
والمؤسف أن الانقسام سبب في عدم توحيد القرار الفلسطيني بين قطاع غزة والضفة الغربية حيث لا تزال المحاكم في المحافظات الجنوبية لا تلتزم بالقرار والقانون الصادر عن الحكومة الفلسطينية في رام الله.
وتقر اتفاقية الرضا بالزوج والحد الأدنى لسن الزواج وتسجيل العقود بين الأزواج على أن الأطراف المتعاقدة يجب أن تلتزم بميثاق الأمم المتحدة في تعزيز الاحترام مراعات الحقوق الإنسانية والحريات دون تمييز بين الناس لأي سبب من الأسباب.
تؤكد المادة “16” من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على عدم عقد الزواج الا برضاء الطرفين المزمع زواجهما دون ممارسة أي نوع من الاكراه.
وتؤكد الجمعية العامة للأمم المتحدة أن على كافة الدول بما فيها تلك الواقعة تحت الاحتلال أو الحكم الذاتي أو الوصاية الدولية اتخاذ التدابير اللازمة لإلغاء تلك الأعراف والعادات القديمة التي تتنافى مع مواثيق الحقوق الإنسانية كرامة الانسان وإلغاء كافة أشكال زيجات الأطفال والقاصرين وخطبة الصغيرات قبل سن البلوغ في ظروف غير لائقة.
ويعد زواج القاصرات قبل سن الثامنة عشر وزاج الاكراه بكل اشكاله انتهاك صارخ لحقوق الانسان حيث يتسبب في الغالب بالتعنيف الاسري النفسي والجسدي والحرمان من التعليم والجرائم المجتمعية مما ينعكس على الأطفال بشكل عام.
وتؤدي ظاهرة تزويج الصغيرات إلى الكثير من الآثار الصحية والنفسية السيئة على الفتيات، نتيجة عدم النضوج الجسدي وقلة الوعي، كما يؤكد طبيب النساء والتوليد بسام عابد، فالحمل المبكر يأتي في مرحلة عدم اكتمال نمو حوض الفتاة، بالتالي فإن تبعاته خطيرة جدًا، وقد يتسبب ذلك في تعسّر الولادة وحدوث انفجار رحم الأم الصغيرة ووفاتها وطفلها.
يضيف: “يؤدي الحمل المبكّر إلى أضرارٍ صحيةٍ ربما تصاحب الفتيات الصغيرات مدى الحياة، ومنها الناسور الولادي، وهو ثقب يحدث في قناة الولادة نتيجة تعسرها، يسبب وفاة الطفل وتسرب في البول والبراز للفتاة المصابة، ما يجعلها منبوذة مجتمعيًا”، كما لا تستطيع الفتيات نقاش أمر وسائل منع الحمل نتيجة العنف المنزلي الذي يتعرضن له، ما يؤدي إلى الحمل المبكّر والمتكرر.
وتعدّ الفتيات اللواتي يتم تزويجهن مبكّرًا أكثر عرضة للتمزق المهبلي والنزيف الناتج عن العلاقة الزوجية، وربما تستدعي تدخلًا طبيًا جراحيًا، فضلًا عما يلحقه من صدمةٍ نفسيةٍ قد تستمر فتراتٍ طويلةٍ وتشكّل عائقًا في العلاقة الزوجية مستقبلًا.
وتؤكد دراسات (بحسب عابد) إن العلاقة الجنسية في سنٍ مبكرةٍ تزيد من خطر الإصابة بسرطان عنق الرحم، كما أن الحمل المبكّر وما يصاحبه من مشكلاتٍ يُعرّض الجنين للسقوط، والولادة المبكرة الناتجة عن التهابات وانقباضات الرحم المتكررة، كما تُدخل الفتيات في دائرة الصدمة النفسية نتيجة عدم الوعي بمسؤوليات الزواج، والاعتقاد أنه ثوب أبيض وحفل زفاف.
ترتفع نسبة الولادة القيصرية إلى 29% في عام 2021، وفقًا لإحصائية وزارة الصحة في قطاع غزة، بينما تبلغ نسبة حمل الصغيرات دون 18 عامًا ما بين 3-4% من مجموع حالات الحمل.
وتقول مريم شقورة مديرة مركز صحة المرأة في مخيم جباليا: “إن الولادات القيصرية بين الفتيات اللاتي يتزوجن ويحملن بشكلٍ مبكرٍ أعلى من اللواتي يتزوجن في سنٍ أكبر”، مضيفةً إن فقر الدم “الأنيميا” ينتشر بين هؤلاء الفتيات، وهذا يؤثر سلبًا على أجسادهن التي تتعرض للإضعاف في هذه السن، كما أن هناك فرصة أكبر لولادة أطفالٍ بإعاقاتٍ جسديةٍ وذهنيةٍ نتيجة لولادة الأمهات الصغيرات”.
وتؤكد شقورة إن معظم النساء اللواتي تزوجن مبكرًا يعانين من هشاشة العظام، التي تؤثر بشكلٍ كبيرٍ على دورها الأسري والمجتمعي، وتنوه إلى أن هناك الكثير من المشاكل النفسية تعانيها الفتيات اللاتي يحملن في هذا السن.
وتوضح أن هناك الكثير من حالات الزواج المبكر التي توفت أثناء الولادة، لأسبابٍ عدةٍ منها النزيف الحاد الذي تعانيه أثناء الولادة، وأيضًا حالات تسمم الحمل التي تكثر عند الفتيات دون سن التاسعة عشر وتؤدي أحيانًا إلى الوفاة.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”.