المقدسية البديري .. رائدة الإعلام النسائي في فلسطين وأولى المذيعات العربيات
شخصية أغسطس – مركز الإعلام المجتمعي – تعدّ المذيعة المقدسية فاطمة موسى البديري من أوائل الإعلاميات في الوطن العربي، بعد أن قبلت في إذاعة فلسطين الأولى «هنا القدس» التي اُفتتحت في شهر آذار (مارس) عام 1936م، لتكون ثاني إذاعة عربية ولتصبح قبلة لكل الفنانين العرب ومنارة لنشر الثقافة ومعملاً لصنع الكفاءات الإعلامية التي ساهمت فيما بعد في صناعة الإعلام الإذاعي والتلفزيوني في العديد الأقطار العربية كالأردن وسوريا ولبنان ومصر والعراق.
وهي «أول مذيعة عربية ينقل الأثير صوتها، وأول سيدة تجلس وراء الميكروفون لتقدم لمستمعيها نشرة الأخبار، التي ظلت حتى ذلك الوقت حكرًا على الأصوات الذكورية، وجدت نفسها وحيدة في مواجهة عاصفة لم تهدأ، إلا عند وقوع النكبة التي ضاع فيها نصف الوطن».
تقول الدكتورة فيحاء عبد الهادي: «حين يُذكر اسم الإذاعية المقدسية العريقة، (فاطمة موسى البديري)، يذكر بارتباطه بالريادة في مجال العمل الإذاعي المهني، حين بدأت المرأة تقرأ نشرة الأخبار، بعد أن اقتصرت قراءاتها قبل ذلك، على المقالات المتنوعة المتفرِّقة، مما جعلها أول مذيعة أخبار في «إذاعة فلسطين»، كما يرتبط اسمها بالريادة الاجتماعية، حيث تمردت على العادات والتقاليد الاجتماعية، التي تمنع النساء من العمل في مجالات لم يألفها المجتمع، مثل العمل الإذاعي».
وفي كتابه «قالت لنا القدس» يذكر الأديب المقدسي محمود شقير، جوانب حياة المقدسيين، فيتحدث عن أشخاص كان لهم أثر كبير في ذاكرة المدينة، وعن بنات المدينة فيذكر دورهن في النضال من أجل النهضة والحرية أمثال: (شهندا الدزدار رئيسة جمعية النساء العربيات في القدس، وزليخة الشهابي التي أصبحت فيما بعد رئيسة الاتحاد النسائي في القدس، وسلطانة عبده زوجة خليل السكاكيني، وفاطمة البديري أول مذيعة ومعدة برامج، والشهيدة رجاء أبو عماشة، وحياة المحتسب).
ويشير شقير، إلى أنه: «لربما كانت بنات القدس أقلّ حظًا من بنات المدن العربية الأخرى في التطرّق لهن، والاعتراف بما لهن من فضل في العلم والأدب والفن، وفي النضال من أجل النهضة والتنوير، والتحرّر من الاحتلال… وربما كانت المقدسية فاطمة البديري من أجرأ بنات المدينة في ثلاثينيات القرن العشرين وما أعقبها من سنوات، حينما التحقت بالإذاعة الفلسطينية في القدس، واشتغلت مذيعة ومعدّة للبرامج. كان ذلك يعتبر اقتحامًا غير عاديّ لميدان غير عاديّ آنذاك، حينما تعمل امرأة في وسطٍ أغلبُ العاملين فيه من الرجال، وحينما ينطلق صوتها الأنثوي عبر الأثير مخاطبًا أناسًا كثيرين في أماكن شتّى».
وفي كتابها «القدس والبنت الشلبية» تحدثنا الكاتبة عايدة النجار عن فاطمة البديري فتقول: «برزت فاطمة موسى البديري في أواخر الأربعينات كمذيعة للأخبار السياسية لتكون الرائدة بين النساء، وفي هذا العمل ولتعمل مع الرجال في عمل غير تقليدي إلى جانب عصام حمّاد الذي سيصبح زوجها وليعملا معًا في هذه المهنة بعد النكبة في دمشق، حيث أسس إذاعة الشام ثم في ألمانيا.
وقد ظل اسمها مرتبطًا بصدى صوتها وهي تقول: «هنا القدس» في مدينتها التي حملتها في قلبها في الشتات والعربة. وكانت فاطمة البديري قد اشتركت أيضًا في برنامج المرأة والبرامج الأدبية وبرنامج الأطفال».
وعبر رحلة طويلة قدمت (فاطمة) وزوجها الأديب والشاعر والإذاعي الفلسطيني الراحل عصام حمّاد (1925 – 2006م) نشرات إخبارية وشعرًا وأدبًا وافتتاحيات قومية، وبرامج متنوعة، في إذاعة القدس حتى لحظة إغلاقها، لينتقلا بعد ذلك إلى مرحلة الإسهام في إنشاء إذاعات عربية أخرى كالإذاعة الأردنية ثم السورية فاللبنانية ثم الإذاعة العربية من برلين الشرقية.
الميلاد والنشأة:
ولدت فاطمة موسى البديري (أم مهدي) عام 1923م في مدينة القدس، يعود نسبها إلى عائلة مقدسية عريقة، وهي ابنة الشيخ الأزهري موسى البديري. وأكملت فاطمة دراستها في دار المعلمات في القدس، وتخرجت منها عام 1941م، لتدخل ميدان الوظيفة مبكرًا، فدرّست في مدينة بيت لحم ثم في دار المعلمات الريفية برام الله، لتلتحق بعدها بإذاعة «هنا القدس» في أوائل عام 1946م بصفة مذيعة ومنتجة، وعند انتقال الإذاعة إلى مدينة رام الله، واصلت الإذاعية الفلسطينية الأولى رسالتها، وهي التي أتقنت اللغة العربية، وامتلكت جمال الصوت وقدرة على الإقناع.
لم تكن وظيفة (فاطمة) قراءة نشرة الأخبار فقط، على أهمية ذلك، بل تعدتها إلى أعداد البرامج والترجمة والتمثيل، فقد مثلت مع زوجها عددًا من المسرحيات والتمثيليات الإذاعية، وهي خطوة لم تلق القبول في أوساط العائلة.
ورغم أن الوالد أزهري، إلا أنه لم يعترض وهو يرى ابنته تغادر وظيفتها في المدرسة لتلتحق بالإذاعة، رغم حجم الضغوط الاجتماعية التي واجهها، وفي الإذاعة لم يكن الطريق الذي اختارته المذيعة الشابة سهلاً، فقد بدأت ملامح المؤامرة البريطانية الصهيونية تتضح على فلسطين، وكان معها في ذلك الوقت مجموعة من أبرز المثقفين والإعلاميين، الذين اخذوا على أنفسهم إدارة المعركة، وقد «كان للمرأة الفلسطينية حضورها البارز في إذاعة «هنا القدس»، من خلال الغناء والتمثيل والإعداد والتقديم ومضامين البرامج، فبرزت المطربة ماري عكاوي، ومقدمة برامج الأطفال هنرييت سكسك فراج المعروفة باسم (الآنسة سعاد)، والأستاذة ماري صروف شحادة، والكاتبة الروائية نجوى عارف قعوار، والسيدة قدسية خورشيد، والكاتبة والمترجمة أسمى طوبي، إضافة إلى الرائدة في الإعلام النسائي والمذيعة المتألقة فاطمة البديري، والتي عملت مع زوجها الشاعر والإذاعي القدير عصام حمّاد في إذاعة القدس حتى لحظة إغلاقها، لينتقلا بعد ذلك إلى مرحلة الإسهام في إنشاء إذاعات عربية أخرى كالإذاعة الأردنية ثم السورية فاللبنانية ثم الإذاعة العربية من برلين الشرقية» .
وتذكر الباحثة الفلسطينية بيناز البطرواي أنه «كان لإنشاء إذاعة «هنا القدس» في عام 1936م دورًا مهمًا في دعم ثورة عام 1936م، و قد عمل في هذه الإذاعة عدد من النساء الفلسطينيات مثل فاطمة البديري وغيرها» .
وتشير البطراوي: «إن دور المرأة الفلسطينية الإعلامي المهني لم يكن بالدور البارز، ويعود ذلك إلى صعوبات وقيود اجتماعية لم تسمح للمرأة الفلسطينية بممارسة العمل الإعلامي بشكل واسع بل اقتصر على عدد محدود من النساء الفلسطينيات، اللواتي مارسن هذا العمل بتشجيع من أزواجهن الذين عملوا في الحقل الإعلامي أمثال: منامة الصيداوي قرينة الصحافي عادل جبر محرر صحيفة «الترقي»، و”ساذج نصّار زوجة الصحافي نجيب نصّار، والتي كانت تساعد زوجها في تحرير صحيفة «الكرمل»، وماري بولس عقيلة الصحافي بولس شحادة صاحب جريدة «مرآة الشرق»، إضافة إلى اسمي طوبى وسميرة عزّام» .
وتتحدَّث فاطمة موسى البديري- ضمن مشروع التأريخ الشفوي للمساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية منذ الثلاثينيات -، عن أثر النظرة المجتمعية عليها بعد أن احترفت العمل في الإذاعة: «ردة الفعل كانت فظيعة حطّموا لي أعصابي الناس. الناس تركوا القنبلة الذرية شيت اليابان، وصاروا يحكوا عليّ، فهي كيف؟ وبعدين لأنه أبوي قاضي، كان قاضي شرع وشيخ ويدرس في الجامع، فاستكبروها كثير، إنه كيف أروح وكيف أقعد مع الرجال وأشتغل في الأخبار وأطلع مذيعة مع المذيعين؟! كلهم مذيعين كانوا، من جملتهم جوزي. ما هو كان مذيع وأنا كنت مساعده إله» .
وفي هذه الشهادة تعطينا (فاطمة)، صورة واضحة لعمل المرأة الإذاعي المهني، في نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات: «ما كان فيه مذيعات أخبار. فأنا كنت أسمع مذيعات مصر، كانت تماضر توفيق، وواحدة اسمها صفية المهندس، هذول بدوا يمكن قبلي بشهر أو شي، فسمعت أنا الإعلان، كانت الإذاعة الفلسطينية من الإذاعات المشهورة وقتها، الحقيقة يعني، بعد مصر بشوية، حتى مرات كانت تفوق مصر. فقدّمت أنا قدمت هيك على ورقة إشي، يعني مش متأملة فيها، فاستدعوني، وقدمت امتحان. نجحت. رأسًا يعني نجحت. ودخلت الإذاعة الفلسطينية، كان فيها ثلاث أقسام: قسم عربي، قسم انجليزي وقسم عبري. كنا كل ناس مستقلين بقسمهم. كل ناس إلهم رئيس للقسم وموظفينه، منفصلين عن الثانيين؛ فدخلت، صرت أقرا أخبار».
وتتحدّث الرائدة من خلال شهادتها، عن بعض النساء اللواتي عملن في الإذاعة الفلسطينية، بشكل غير منتظم. وتصدر حكمها على نوعية عملهن، بأنهن لسن مذيعات، بالمعنى الذي تفهمه لعمل المذيعة المتخصص؛ الأمر الذي يؤرِّخ لبداية الوعي بأهمية العمل المهني:
«مش مذيعات بالمعنى الصحيح بيقدموا فترة. كانت نزهة الخالدي، وفيه واحدة للأطفال كانت اسمها: هنرييت سكسك، تقدم للأطفال، وناس يشتركوا في برامج المرأة، نسيت شو اسمهم! كانوا يكتبوا، فيه عدد من الناس كانوا يشتركوا من بعيد لبعيد» .
وقد أتى الفنان والإعلامي المقدسي نصري الجوزي على ذكرها في كتابه: «تاريخ الإذاعة الفلسطينية «هنا القدس» 1936 – 1948م» ، فقال: «هي زوجة الأستاذ الأديب عصام حمّاد من كرام العائلات المقدسية المعروفة.. كانت تشرف على قسم برامج المرأة والأطفال، إضافة إلى أنها كانت تشارك زوجها عصام في تقديم البرامج الثقافية الخاصة والعامة. وبمزيد من الاعتزاز والفخر أذكر أنها بالإضافة إلى المذيعتين المصريتين صفية المهندس وتماضر توفيق كنّ ثلاثتهن، أوائل المذيعات اللائي خضن ميدان العمل الإذاعي الحرفي الرسمي، وفي وقت واحد تقريبًا في العالم العربي كله.
وكان صوتها الحنون الهادئ الرزين يحبب نفسه إلى الأطفال والكبار معًا، لغتها العربية سليمة ومعلوماتها الثقافية ممتازة وبقيت تقدم برامجها الطريفة حتى نهاية الانتداب البريطاني وحلول النكبة الفلسطينية عام 1948م.
وزاملت زوجها في الإذاعة السورية (1950 – 1952م) وفي الإذاعة الأردنية (1952 – 1957م) وفي الإذاعة الألمانية الديمقراطية (1958 – 1965م) بعد ذلك عملت مدرسة للغة العربية، ثم أمينة للمكتبة في دار المعلمات بوكالة الغوث برام الله ثم بوكالة عمّان (1965 – 1971م)، ثم في قسم التصنيف بمكتبة الجامعة الأردنية بعمّان (1978 – 1983م). واستأنفت فاطمة نشاطها في الدار الأردنية للثقافة والإعلام في عمّان».
توفيت السيدة فاطمة موسى البديري في أوائل حزيران (يونيو) عام 2009م في عمّان، بعد ثلاث سنوات من رحيل زوجها، بعد أن سجلت اسمها في قائمة الرائدات العربيات في الإذاعة، وقد حازت على تكريم مركز الإعلاميات العربيات، ويمتلئ أرشيفها بالمواقف التي تستحق البحث والدراسة والتقدير.
والمؤسف أن حلمها بأن تدفن في القدس لم يتحقق، فدفنت في عمّان.