الوساطة القانونية في غزة… عدالة بديلة في زمن انهيار منظومة القضاء 

 

الوساطة القانونية في غزة… عدالة بديلة في زمن انهيار منظومة القضاء 

محمد عليان 

مقالات ذات صلة

في ظل الأزمة والمعاناة التي يعيشها المواطنون في قطاع غزة نتيجة استمرار حرب الإبادة الجماعية، والتي تسببت في توقف عمل كافة المؤسسات الحكومية، كان لشلل قطاع العدالة الرسمي، وخاصة المحاكم الشرعية والنظامية، أثر بالغ على حياة وحقوق المواطنين, فقد أدى تدمير مقرات المحاكم بشكل كامل إلى تعطيل النظر في جميع القضايا المقدمة، بما يتطلبه ذلك من دور للسلطة القضائية والتنفيذية لإصدار الأحكام وتنفيذها.

ومع تصاعد الحرب وتدهور كافة مناحي الحياة، تزايدت الحالات التي تحتاج إلى تدخل قضائي وقانوني عاجل، ما أدى إلى تراكم النزاعات وتعقيدها داخل القطاع. وبسبب هذا التوقف ، لجأ العاملون في المجالين الحقوقي والقضائي إلى الوساطة القانونية كأحد أهم البدائل المتاحة لحل النزاعات في قضايا الأحوال الشخصية والمدنية وحتى الجنائية .

بحيث يقوم الوسيط بعقد جلسات وساطة بين الأطراف المتنازعة، بهدف الوصول إلى اتفاق ودي يحقق العدالة الإنسانية والتوازن بين الطرفين، مع حماية خاصة لحقوق الأطفال والنساء. وتُعد الوساطة أداة فعالة لتخفيف الاحتقان، وتسهم في حل المشكلات بشكل سريع وإنساني، رغم أنها ليست بديلاً تامًا للقضاء الرسمي.

الوساطة ليست بديلاً كاملاً… لكنها ضرورة

في مقابلة مع المحامي محمود عفانة، قال: “الوساطة ليست بديلاً كاملاً عن القضاء، لكنها تمثل حلاً عمليًا وواقعيًا في ظل غياب المنظومة القضائية. بالطبع، هناك قضايا لا يمكن حلها إلا عبر المحاكم، لكن في الظروف الطارئة، تصبح الوساطة أداة فعالة لتقليل الأضرار وتحقيق الحد الأدنى من العدالة، خاصة عندما تتوفر الإرادة الطيبة والتفاهم بين الأطراف.”

أوضح عفانة أن الوساطة، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية، غالبًا ما تنتهي باتفاقيات منسجمة مع نصوص القانون، بما يحمي حقوق الأطراف، لا سيما النساء والأطفال، وفق القوانين المعمول بها في المحاكم الفلسطينية.

وساطة أنقذت أماً من “سجن بلا قضبان”

في حالة واقعية، وبحضور المحامي الوسيط محمود عفانة وزميلته المحامية سعاد المشني، روت السيدة (س.ف) قصتها قائلة: “لقد تحررت من قيود سجني الذي جعلني أسيرة طوال أربعة أعوام. اليوم أتنفس من جديد، وبرفقتي أطفالي الذين حاربت من أجلهم. حيث كان السبيل الوحيد لتحرري هو التنازل المكتوب عن حضانتهم .”

كانت السيدة في نزاع مستمر مع زوجها السابق لمدة أربعة أعوام، عاشت خلالها بعيدة عن أطفالها، معلقة بين الزواج والطلاق، دون أن تنجح تدخلات العائلة أو الحلول العشائرية في إنهاء معاناتها. إلى أن اهتدت في النهاية للجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون، حيث عرضت مشكلتها على المحامية سعاد المشني، والتي أحالتها بدورها إلى المحامي الوسيط محمود عفانة.

بصفته وسيطًا قانونيًا، سعى عفانة للحفاظ على المصلحة الفضلى للأطفال، مؤكدًا أن “الحضانة حق للمحضون، لا للحاضن”، وهو ما يتسق مع نصوص قانون الأحوال الشخصية المعمول به في قطاع غزة في المواد (380–394)، إلى جانب قانون حقوق العائلة.

ورغم التحديات التي واجهها عفانة أثناء الوساطة، نجح في التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، يتضمن الطلاق القانوني ومنح حضانة الأطفال لوالدتهم، مع ضمان حقوق الجميع بما في ذلك الأطفال. وبعد أربعة أعوام من النزاع ومن كونها معلقة، استعادت السيدة حريتها وحقها في رعاية أطفالها، مقدّمة شكرها للفريق القانوني الذي ساندها.

 

العدالة البديلة: ضرورة ملحّة وليست ترفًا

عاد المحامي عفانة ليؤكد أن الوساطة القانونية وغيرها من آليات حل النزاعات بالطرق البديلة باتت ضرورة في ظل تراكم القضايا وتعطل المحاكم، مشيرًا إلى أن هذا النهج لا يقتصر على حل النزاعات فقط، بل يسهم في الحفاظ على سريتها ويوفر الوقت والجهد والتكاليف. كما أشار إلى دور الجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون ومجموعة المؤسسات الشريكة ببرنامج سواسية 3 ، والتي لا تكتفي بالتدخل القانوني، بل توفر أيضًا الاستشارات، وورشات التوعية، والدعم النفسي للنازحين، لا سيما النساء والأطفال.

في السياقات المدمّرة… القانون لا يموت

في ظل الظروف المأساوية التي يعيشها قطاع غزة، تبقى الوساطة، والتفاوض، وسائر آليات العدالة البديلة، بارقة أمل لإعادة الحقوق لأصحابها، ولو جزئيًا. ورغم صعوبة الواقع، فإن القانون يمكن أن يظل فاعلًا حتى في السياقات المدمّرة، شريطة توافر الإرادة القانونية والمجتمعية، والدعم المؤسسي.

وأكد عفانة في ختام حديثه: “نحن لا نحتاج إلى قاعة محكمة لتحقيق العدالة، بل إلى ضمير مهني، وبيئة محايدة، ووسيط قادر على خلق التوازن وحماية الحقوق ضمن إطار قانوني وإنساني.”

المجتمع المدني… محاكم بديلة في زمن الحرب

هذا وتلعب مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الشريكة دورًا محوريًا في حماية الفئات المستضعفة، من خلال تقديم الدعم القانوني، والخدمات للنازحين، خاصة النساء والأطفال. هذه المؤسسات أصبحت أشبه بمحاكم ميدانية غير رسمية، تعمل على تقليل الأضرار واحتواء النزاعات قبل أن تتفاقم.

فرغم غياب العدالة الرسمية، لا يعني ذلك غياب العدالة تمامًا. بل هو نداء لخلق سبل بديلة، مرنة، وإنسانية، لأن الناس لا يستطيعون الانتظار حتى تنتهي الحرب ليستردوا حقوقهم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى