دمروا بقالتها خمس مرات وما زال في الحلم بقية
دمروا بقالتها خمس مرات وما زال في الحلم بقية
غزة- ابتسام مهدي:
“خمس مرات تدمّرت بضاعة بقالتي خلال الحرب، هربت بها من مكانٍ لآخر، الدكان هو مشروعُ عمري ومصدر دخلي الوحيد، لطالما اعتبرتهُ ابني فأنا لم أنجب أطفالًا”.
هكذا تحدثت الشابة مي المظلوم (30 عامًا) عما حلّ بمشروعِها الصغير خلال حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م، عانت خلالها من مرارة النزوح المتكرر داخل مدينة غزة التي رفضت النزوح خارجها حين أجبر الاحتلال الناس على ذلك، وفي كلِ مرةٍ تحمل بضاعتها لتنقذها من الدمار المحقق.
تتفقد مي البضاعة داخل دكانها الصغير في شارع النفق غرب مدينة غزة، وتُشرف على إعادة ترتيبها بعدما نظفت المكان من بقايا الركام بجهدِها الشخصي، لتعيد إحياء مشروعها.
تتنهّد مي وهي تروي قصتها منذ بدأت قبل خمس سنوات تشقّ درب الحياة بمشروعٍ صغير، تعيل به أسرتها ووالديها اللذانِ يسكنانِ معها هي وزوجها، في ظلِ ظروفٍ اقتصاديةٍ قاسية بسبب الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، منذ عام 2007م.
تقول مي: “بدأت من الصفر، قبل عامينِ من الحرب أنشأت محلًا صغيرًا بعد سنواتٍ من العمل في أكثر من مكان لتكوين رأس مالٍ صغير وبناء علاقات جيدة مع التجار، لكن منذ بداية الحرب عدت إلى نقطة البداية”.
اضطرت مي للنزوح أكثر من مرة، كانت في كلِ مرّةٍ تحمل بضاعتها معها خوفًا عليها من الضرر الذي أصابها بالفعل لاحقًا.
توضح مي أبرز المرات التي فقدت فيها بضاعتها: “نقلتها من المحل إلى منزلي، وحين نزحت نقلتها كلها معي، سقطت قذيفة على شقة أخي وأصابت الغرفة التي كانت بها البضاعة وفقدت معظمها، نزحت مرة أخرى إلى بيت أقارب، وضعت البضاعة أسفل الدرج (السلالم)، فتم استهدافه أيضًا وفقدت جزءًا منها مجددًا، ومرة ثالثة وضعتها في غرفة نومي ونزحت، فتم استهداف منزل جيراننا ودخلت الريح الساخنة إلى الغرفة من شدة الانفجار والركام وفقدت المزيد”.
ذات مرة، نزحت مي وعائلتها إلى منزل أقارب لها في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة في مايو 2024م، لم تحمل يومها شيئًا جراء القصف الشديد على منطقةِ سكنِها، ثم عادت في اليوم التالي رغم زخات الرصاص والقصف الشديد لتأمين بضاعة المحل، فنقلت بعضها بعربة كارو جلبها صاحب البناية التي تسكن فيها، وتركت الباقي في المحل.
تقول: “عرضت حياتي للخطر، يومها استشهد أمامي شخص بعدما أصيب برقبته”.
منع الاحتلال إدخال السلع الغذائية والتموينية وحاجيات الأطفال (السكاكر) التي كانت تبيعها دفعها للتفكير في البدائل، فكانت تذهب للسوق وتسأل التجار عما يمكنها بيعه.
تكمل: “أكثر من مرة كنت على وشك إقفال الدكان، جميع الأرفف فارغة وأغلب الأصناف التي أبيعها مرتفعة الثمن، ولا يمكنني شراؤها كون رأس مالي صغير، والسعر مرتفع بالنسبة للزبائن في منطقتي”.
بدأت مي بصنع المعجنات والفطائر والقرشلة، تستيقظ صباحًا وتجمع الحطب وتجهز المواد الخام من خلال البحث عن أرخصها، ثم تخبزها لتكون وتعرضها في المحل، “كان الأمر صعبًا، ولكن هذا أهون من فقدان دكاني”، تقول مي.
خلال الحرب، استمرت مي في دفع إيجار الدكان، على أمل أن تنتهي الحرب وتعود للعمل، فكانت توفّر الإيجار على حساب حاجيات الأسرة، حتى ثقُل الأمر عليها، لكنها خشيت أن يطردها صاحب المكان في ظل زيادة الطلب على أي وحدةٍ سكنية.
عانت مي كما غيرها من المجاعة التي اجتاحت شمال قطاع غزة، حتى إنها فقدت 6 كيلو من وزنها، لعدم توفر الدقيق والخضار ولا الفاكهة، تعقّب: “كنا نعتمد على المعلبات وحشائش الأرض من الخبيزة والحمصيص وغيرها دون خبز، وفي ذات الوقت أذهب يوميًا للسوق في محاولة لتأمين بضاعة أبيعها في المحل”.
تعرضت مي بسبب ذلك لوعكة صحية، ولم تجد مستشفى تُنقل إليه، فقد دمر الاحتلال معظم المستشفيات، توضح: “بسبب ضعف التغذية وتحملي الكثير من المسؤولية، أُصبت بالإعياء ولم أجد طبيبًا يعالجني، اعتمدت على الأعشاب الطبيعية المتوفرة مثل البابونج حتى تحسنت”.
ويعدّ ما تعرّضت له مي خرقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تنص في مادتها (33) على حماية المدنيين أثناء النزاع المسلح، ومنع أي أعمال عقابٍ جماعيٍ أو ترحيلٍ قسري، كما تحظر المادة (35) تدمير الممتلكات المدنية، كما تنتهك المادة (16) التي تنص على حماية النساء أثناء النزاعات المسلحة، وضمان حصولهن على الرعاية الصحية، وتنتهك المادة (55) التي تُلزم القوة المحتلة بضمان توافر المواد الطبية والغذائية للسكان المدنيين.
خلال مرضها، حاولت مي الإشراف على محلها، تقول: “لم أُرزق بأطفال، لذلك أعتبر هذا المحل طفلي، مرّت علينا تجربة النزوح والجوع وأكثر من مرة كدت أفقده، وضاع منه الكثير ولكن ما زلت أحاول وإن تراجع عما كان عليه”.
وتختم: “أتمنى أن تنتهي الحرب ويكفي ما أخذته منا، وأن أجد من يساعدني ويدعم مشروعي الصغير حتى يكبر”.