القهر يطوّق التسعينية (سارة) .. نكبة ووحدة
القهر يطوّق التسعينية (سارة) .. نكبة ووحدة
غزة- رفيف اسليم:
لم تكن التسعينية (سارة الأشقر)، ترغب بترك بيتها في منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، إلى أن بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي بنسف المربعات السكنية وتهجير سكّانها، وحاصرت طائراته منطقة سكنها، وأغرقتها بزخاتٍ من الرصاص، لكن كيف لتسعينية أن تقطع المسافة سيرًا على الأقدام!
“وحدي داخل الخيمة بلا معين، لا أستطيع تلبية احتياجاتي”، تقول المسنّة الأشقر بمرارة، وهي تجلس على باب خيمةٍ من القماش في ملعب اليرموك وسط مدينة غزة.
لدى الحاجة سارة المكنّاة أم سعدي ثلاثة أبناء وخمسة أحفاد، تعيش معهم في بيتها بمنطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وحين شنّ الاحتلال الإسرائيلي الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، ومع إجباره الفلسطينيين على النزوح إلى جنوب القطاع، رفضت سارة تكرار تجربة التهجير عام 1948م، والتي خبرتها حين كانت بعمر (12 عامًا)، لكنها سرعان ما أُجبرت على النزوح.
تروي: “كان الوضع مثل الأفلام التي لا أحب مشاهدتها، طخ وموت وناس بتجري وبتصرخ”، وسط كل هذا العناء، تمكّن ابنها (رمزي) من توفير كرسيٍ متحركٍ أجلسها عليه، وحاول دفعه، بكل ما أوتي من قوة، لكن الطرق الرملية التي يغطيها الركام أكملت المعاناة، فقد التفّت عجلات الكرسي على وشاحها، فكادت أن تسقط أرضًا.
حاول ابنها (رمزي) استكشاف الأمر لكن الدبابات الإسرائيلية عاجلته بطلقاتٍ أجبرته على السير، توضح: “لم يكن معنا مقص ولا سكين، اضطررنا للتحايل على العجلات وفكّ القماش، كان الرصاص يمر من تحت أقدامنا وظننت أننا سنموت”.
في الطريق بين منطقة جباليا شمال قطاع غزة، ومدينة غزة، نصب جيش الاحتلال الإسرائيلي حاجزًا، اعتقل خلاله عددًا من النساء والرجال كان من بينهم نجل السيدة سارة الذي يرافقها.
بكت سارة وهي تتحدث عن قلقها على مصير ابنها المعتقل، مضيفة: “أخاف تكرار النزوح، ما بقدر أمشي وأنا لحالي، ابني اعتقله الجيش على الحاجز ولا أعرف عنه شيئًا، وباقي أولادي نزحوا على الجنوب، وما ضل معي حد”.
تضيف وهي تبكي: “وصلت لدرجة أنني أستطيع البقاء دون أكل ولا شرب ولا دواء، لكن أخشى الموت وحدي”.
ويخالف ما تعرّضت له سارة المادة (138) من القانون الدولي الإنساني، كونها محمية بشكل خاص لأنها من كبار السن، كما تكفل لها اتفاقية جنيف الرابعة حماية خاصة لكبار السن.
بمرارة تتساءل سارة: “كم مرة عليّ أن أعيش تجربة النكبة، هل كان عليّ اختيار الموت داخل بيتي للخلاص من هذا العذاب الذي يرافقني في كل خطوة، بدلًا من البقاء وحدي أعاني الوحدة والمرض والجوع والخوف والنزوح”.
تعاني سارة من صعوبة في الحركة، فلا تستطيع التحّرك داخل الخيمة كونها لا تمتلك كرسيًا، وقد احتاجت عشر دقائق للخروج إلى باب الخيمة من أجل المقابلة التي حملت وجعًا امتد منذ النكبة عام 1948م، حتى نكبة 2023م.
تعتبر سارة أن النوم على فراش ووسادة بات رفاهية، فمنذ نزحت إلى المخيم قبل شهرين لم تمتلك سوى بطانية طلبت من أحد الأشخاص شرائها، وطوال الليل لا “يغمض لها جفن”، كما تقول، خوفًا من القصف الإسرائيلي المتواصل.
تعاني سارة أيضًا من أزماتٍ صحيةٍ في العظام والمفاصل، لكن لم يتوفر لها الدواء منذ عدّة أشهر، كما لم يتوفّر لها الطعام الصحي المناسب لسيدة في مثل عمرها، حتى باتت لا تقوى على الوقوف.
تستذكر سارة الجوع الذي عانته إبان النكبة عام 1948م، قائلة: “الجوع مش غريب علينا، كانت أمي تجمع قمح وتطحنه وتعجن وتخبز، ونشبع أو نعمل حالنا شبعانين”، مشيرة إلى أنه لم يكن أمام أمها وسيلة أخرى لإسكات جوع البطون الخاوية التي تعاني من التشرد والبرد والنزوح.
نزح اثنان من أبناء سارة وأحفادها إلى جنوب قطاع غزة كما تروي، بينما تم اعتقال ابنها رمزي الذي بقي معها، ولم تعد تعلم مصيره، تضيف: “اشتقت لحفيدي إبراهيم، كان غلباوي بس بيحيك قصص حلوة وبيسليني”، تتنهد مردفة:”معقول أرجع أشوفهم”.
تتمنى سارة العودة إلى بيتها في بيت لاهيا وأرضها، وتختم قولها بالحديث إنها رأت في المنام زوجها المتوفي يخبرها إنه سيزرع الأرض بالزيتون والفاكهة، بينما تحثّه على الذهاب لصاحب البئر من أجل ري الزرع، لتستيقظ وتجد نفسها داخل الخيمة!