خيمة على الرصيف وكومة من الهموم في قلب رشيدة

خيمة على الرصيف وكومة من الهموم في قلب رشيدة

غزة- نغم كراجة:

على رصيفِ أحد شوارع مدينة غزة، تجلس السيدة رشيدة معروف (63 عامًا) أمام خيمتها المهترئة، تطالع وجوه المارة بنظراتٍ واجمة، وتحتضن صورةٌ قديمة لابنيها محمد ومحمود الذين استشهدا منذ بداية الحرب!

تمرر السيدة أصابعها على الصورة برفقٍ شديد، وهي تهمس بصوتٍ خافت: “كل شيء راح، الأبناء…البيت.. الأمان.. ما ضل إلا ذكريات وحسرة”.

رشيدة، هي واحدة من النساء اللواتي تسببت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023م، في تشريدها وفقدانها لابنيها محمد (30 عامًا) ومحمود (28 عامًا)، الذين رفضا النزوح وأصرا على البقاء في منزلِهما لحمايته من السرقة، لكن غارة إسرائيلية على المنطقة أنهت حياتهما، لتبدأ معاناة الأم.

شيّدت رشيدة منزلها في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، حجرًا حجرًا، بمساعدة أبنائها لكنها عادت إليه بعد أشهر طويلة من النزوح القسري، بعدما دخلت الهدنة حيز التنفيذ يوم 18 يناير 2025م، لتجده ركامًا.

تحبس دمعتها وهي تقول:” رغم معرفتي أن البيت قد دُمّر لكنني كنت بحاجة أن أراه… أن أودعه، نصبت خيمتنا بجانب منزلي المدمر حتى استيقظ كل يوم وأجلس أمامه لأتذكر كيف كان شكله وأسرح في ذكرياتنا به”، لكن الحرب لم تترك لها وقتًا، ففي منتصف مارس 2025م، عاد العدوان مجددًا وصدرت أوامر إسرائيلية بإخلاء المناطق الشمالية فورًا تحت غطاء ناري كثيف”، تقول وهي تشير إلى أطراف خيمتها:

“لم يكن أمامي خيار.. جمعت ما استطعت، وخرجت بصحبة زوجي وأبنائي الثلاثة وفاء، فايز، وعمر، سِرنا خمس ساعات على الأقدام باتجاه الغرب، نبحث عن بقعةٍ لا تطالها النيران”، تقول رشيدة.

تصمت رشيدة قليلًا، ثم تشير إلى ابنتها الشابة التي كانت تساعدها في ترتيب الخيمة، وتضيف: “وفاء فقدت زوجها في جباليا قبل أن نُجبر على النزوح جنوبًا.. استشهد في قصفٍ مفاجئ أثناء محاولته تأمين بعض الطعام، تاركًا لها طفلهما أيمن، الذي لم يتجاوز عامين، تحمل في عينيها حزنًا أكبر من عمرها، أليست ابنتي صغيرة على أن تصبح في قوائم الأرامل!”

في ظل اكتظاظ مراكز الإيواء، لم تجد رشيدة مأوى.. نصبت خيمتها على أحد الأرصفة في منطقة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، تتنهد مطولًا وتضيف: “هذه ليست المرة الأولى التي أعيش فيها في خيمة، بل عشت فيها لأكثر من عام في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، لكنها المرة الأولى التي أنام فيها على أسفلت الطريق، دون سجاد يحمينا من برودة الأرض أو حرّها، والمرحاض بعيد تمامًا، وكل شيء هنا يزيد معاناتنا”.

تكمل: “لم يعد لدينا ما نخسره، نعيش على المساعدات، لكن ما يصلنا لا يكفي، زوجي لا يستطيع العمل بسبب غضروف في ظهره، ولا مورد لنا إلا التكيات وبعض الإغاثات، التي تُقدَّم أحيانًا بطريقة تفتقر للكرامة”.

لم تقف معاناة رشيدة عند فقدان نجليها وبيتها ونزوحها، تشير إلى ابنها عمر الجالس قربها، وتقول: “أصيب عمر في قدمه اليسرى برصاصةٍ عندما كان يحاول الحصول على كيس دقيق من إحدى الشاحنات خلال المجاعة التي اجتاحت جنوب القطاع، ومن تلك اللحظة لم يعد قادرًا على السير بشكلٍ طبيعي”.

أما فايز فهو عاطل عن العمل، تشرح والدته: “شاب في مقتبل عمره، لكنه عاجز عن البدء بأي مشروع صغير بسبب العجز المالي، نحن بالكاد نؤمّن لقمة العيش”.

تعاني رشيدة من مرضى الكلى، تحتاج إلى علاج دوري لا يتوفر في ظروف الحرب والحصار، تقول بصوتٍ متقطّع: “البدائل التي أحصل عليها لا تخفف شيئًا من الألم، أعيش الوجع بصمت كما يفعل الكثيرون”.

تعاني رشيدة يوميًا من أجل تأمين المياه، تشير إلى جالونين فارغين موضحة: “أمشي مسافات طويلة يوميًا للحصول على بعض المياه، وحين كنت في الجنوب، كانت المعاناة أيضًا قاسية بشكلٍ لا يمكن وصفه”.

لا تملك رشيدة أي شعورٍ بالأمان، حتى داخل خيمتها، تقول وهي تمسك بطرفِ غطاءٍ وتحكمه على رأسها: “أخشى دخول القوارض أو هجوم الكلاب الضالة، لا أنام في الليل وأبقي عيني على أبنائي خشية أن يؤذى أحدهم”.

ويخالف ما تتعرض له رشيدة ومئات آلاف النساء المادة (14) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية التي تلزم القوى المحتلة بتأمين الحماية والرعاية للمدنيين، خاصة النساء والأطفال والمرضى، وكذلك تنتهك البنود المتعلقة بالسكن والرعاية الصحية.

تبتسم رشيدة بمرارة قائلة: “تحدثوا عن حقوق في زمن الحرب، لكن لم نرَ منها شيئًا، نحن خارج حسابات العالم كأننا لا نُرى، ولا يُسمع صوتنا”.

ورغم كل شيء، تُبقي رشيدة على شعلة أمل داخلها، من أجل البقاء، تقول وهي تمسك بيد ابنتها وفاء: “سنبقى هنا ما دُمنا نتنفس، ورغم كل ما انتُزع منّا، نساء غزة قادرات على حمل الخيمة والوطن في آنٍ واحد”.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى