مصابة بالاكتئاب … روح فاطمة تختنق تحت نار الإبادة
مصابة بالاكتئاب … روح فاطمة تختنق تحت نار الإبادة
دير البلح – ابتسام مهدي:
“وحدي أعيش حربًا ثانية، القصف والجوع والخوف حرب، وفقدان أدوية الاكتئاب، وجلسات الدعم النفسي الخاصة بي حربٌ ثانية تخنقني على مدار الساعة”.
تصدمك فاطمة (اسم مستعار) وهي تتحدث بهذه العبارة وتضع يدها على قلبها كأنها سيقفز من بين ضلوعها، الشابة التي بدأت معاناتها مع الاكتئاب قبل نحو عامين، تفاقمت حالتها النفسية أكثر خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي بدأت منذ 7 أكتوبر 2023م، بسبب فقدان الأدوية الخاصة بها، وانقطاعها عن العلاج تمامًا.
تعود قصة فاطمة (27 عامًا) إلى ما قبل الحرب، عندما خطبها ابن خالتها، وعاشت العائلتين الفرح لوجود علاقة طيبة، وقبل الزفاف أعلن الخطيب فسخ خطوبته عنها دون ذكر أسباب، ورغم محاولة الجميع فهم ما جرى لكنه رفض، ما تسبب بصدمةٍ للشابة التي لم تتوقع حدوث هذا أبدًا.
تقول فاطمة بصوت مخنوق: “كنا متفاهمين جدًا وعلاقتنا ممتازة، اعتقد الجميع أننا سنكون أزواجًا مثاليين، لا أعلم حتى اليوم سبب خطوته المفاجئة، ولم يعلم أحد من عائلتينا إلا عندما وصلتني ورقة الطلاق”.
ورغم محاولة فاطمة ومن حولها فهم ما جرى كان يرد “انقطع النصيب”، ردٌ حيّرهم أكثر ودفعهم لتحميلها المسؤولية بسؤالهم المتكرر “ماذا حدث حتى يفسخ الخطوبة”، تكمل: “لم يكن لديّ إجابة، نظراتهم كانت تحرقني، سمعت كلامًا جارحًا، وهو لم يدافع عني وتركني لكلام الناس الذي لا يرحم”.
اختنق صوت فاطمة التي توقّفت عن الحديث ليكمل شقيقها الأكبر ما جرى لأخته: “أصبحت انطوائية لا تتحدث مع أحد، دائمة البكاء، تأثرت كثيرًا بما حدث وبكلام الناس والإشاعات التي لاحقتها، تعرّضت لنوبات إغماء، حاولنا الضغط عليها لتتناول الطعام دون فائدة، شعرنا أننا سنفقدها، اصطحبناها إلى مركز صحة نفسية حكومي”.
أخبر الطبيب العائلة أنها تعاني من نوبة اكتئاب حاد وتحتاج إلى علاجٍ من 6 شهور إلى سنة، حسب تفاعلها وعدم وجود نكسات، يكمل شقيقها: “كنت أذهب معها للعيادة كل أسبوع، وأُشرف بنفسي على إعطائها الأدوية ومتابعة كل شيء، يهمني العودة لما كانت عليه قبل ما حدث معها”.
بعد 3 شهور بدأت فاطمة تتحسن، بدأت تضحك وتتحدث معهم ولم تعد تجلس في الغرفة وحدها، تطلب الخروج إلى البحر، وزيارة الأقارب، هي خرّيجة جامعية وكانت متفوقة ومحبوبة بين زميلاتها كما يروي شقيقها، لكن كل شيء تغيّر عندما اندلعت الحرب.
يوضح شقيقها: “أول الحرب كانت أمورها جيدة، مع أنها كانت تخاف وتسببت الحرب في حدوث وسواس قهري لها بسب القلق والرعب من الأصوات العالية، كان الدواء متوفرًا، وبعض جلسات الدعم النفسي، ولم يكن لدينا نازحين واختلاط كبير مع الناس، كنا قريبين جدًا منها”.
لكن التغيّر الواضح ظهر على فاطمة منذ فبراير 2024م، حيث بدأت حالتها تتدهور، يقول شقيقها: “ذهبت لجلب الأدوية من العيادة، وجدنا أن الجرعة تقلّصت للنصف، وهناك نوع أدوية غير متوفر، كانت تأخذ أدوية ( لوسترال ، أونوزلابين، ايفكسور )، وخلال الحرب زادت الأدوية التي تحتاجها بسبب الانتكاسة التي حدثت لها، وقلّت جلسات الدعم النفسي بسبب الخوف من استهداف التجمّعات”.
يؤكد الشاب أن الحرب وتأثيراتها كانت السبب وراء انتكاسة حالة فاطمة، إثر نقص الأدوية ونزوح أقارب تحدثوا معها عن خطوبتها كلما اجتمعت بهم، رغم تحذير الطبيب بعدم الحديث معها عن تلك التجربة.
يتنهّد بعصبية وحرقة ويكمل: “طلبنا منهم عدم التحدث بالموضوع دون فائدة، كانوا يذكّروها بالأمر خلال حديثهم، طبعًا دون قصد ولكن نفسية فاطمة لا تفهم النوايا، دخلت في انتكاسة واكتئاب حاد جعلها ترفض تناول الأدوية”.
حاولت فاطمة خلال الحرب الانتحار بسبب الانتكاسة التي أصابتها، بعدما غافلت أمها وأختها أثناء خَبز العجين عند فرن الطين، لتأخذ شعلة وتحرق بها ملابسها، يتابع بحرقة: “اشتعلت بها النار وهي صامتة لا تتحرك، لولا صراخ أمي وأختي جعلنا نركض أنا وأخي لنطفئها وننقلها إلى المستشفى.
عانت فاطمة من حروق في يدِها وجزءٍ من رقبتها، دون أن يظهر عليها أي ملامح لشعورها بالألم، كان الصمت سيد الموقف، وطلب الطبيب عرضها مجددًا على طبيب نفسي لتجنّب تكرار الحادثة.
يكمل شقيقها: “من لحظتها ونحن نراقب فاطمة ولا نتركها نهائيًا، نحاول توفير الدواء، ولكن لا يمكننا توفيره، الأدوية النفسية مرتفعة الثمن وغير متوفرة، وهذه مشكلة لا نستطيع حلها”.
ويعدّ ما تعرّضت له فاطمة خرقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تنص في مادتها (16) على حماية النساء أثناء النزاعات المسلحة، وضمان حصولهن على الرعاية الصحية، وتنتهك المادة (55) التي تُلزم القوة المحتلة بضمان توافر المواد الطبية والغذائية للسكان المدنيين.
يختم شقيقها بحزن: “أختي فتاة صغيرة، لا تغيب عن بالي لحظة، كل ما أطلبه من المؤسسات أن تسعى لتوفير الأدوية للمرضى النفسيين، أختي ليست وحدها من تعاني، كل من هم مثل حالتها يعانون ويجب الوقوف معهم”.