هيا مرتجى… حين صمت صوت الحياة في غزة
هيا مرتجى… حين صمت صوت الحياة في غزة
غزة – بسمة أبو ناصر:
تقف الطفلة مريم أمام صورة والدتها وتهمس: “وين ماما؟”، فيجيب والدها بصوتٍ مبحوح: “مسافرة يا بابا”، تحتضنه طفلتها الأكبر شام، كالباحثة عن دفء أمها في صدره، وحين يغلبهم الشوق تبكي الصغيرات دموعًا صغيرة حزنًا على همٍ كبير، تفتشانِ عن حضن أمٍ غاب ولن يعود أبدًا.
هذا ما يحدث يوميًا مع طفلات الصحفية هيا مرتجى (30 عامًا)، التي استشهدت إثر نوبة قلبيةٍ، بسبب القصف الإسرائيلي المفاجئ قرب منزلها بمدينة غزة يوم 18 مارس 2025م.
“كل شيء صعب بدونك، ربنا يصبّرني على فراقك”، بهذه الكلمات تحدّث محمد الشنّاط زوج الصحفية مرتجى، التي خطفها الموت في حربٍ قاسية، لم ترحم قلبها المحب وصوتها الحنون، ثم احتضن طفلتيه شام (5 سنوات) ومريم (3 سنوات).
عملت الصحفية هيا مرتجى معدّة تقارير صوتية لعددٍ من القنوات العربية والأجنبية، لكنها اختارت أن تسخّر صوتها للأطفال، فأنشأت قناة خاصة على اليوتيوب حملت اسمها، وقدّمت فيها محتوى ترفيهيًا، حتى غدا صوتها مألوفًا للأطفال.
تميّزت بإطلالتها على شاشة (أونروا) بأسلوبٍ فريد، حوّلت فيه الدروس الجافة إلى مغامرات تفاعلية، عبر رسومٍ متحركة، وأدخلت شخصيات كرتونية وغناءً وضحكًا، فبات الأطفال ينتظرون صوتها كما ينتظرون أبطال القصص قبل اندلاع الحرب.
“ما شفت حدا زيها بمحبتها واحترامها وتربيتها لبناتنا، كانت بدها يطلعوا قويات، حافظات للقرآن، ويعرفوا يحبوا الناس ويحترموهم”، يقول محمد، مسترجعًا تفاصيل شخصية استثنائية.
مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، اضطرت هيا وعائلتها للنزوح من شمال القطاع نحو الجنوب، إلى ما وُصف حينها بـ”المنطقة الآمنة”، لكن الأمان كان سرابًا. تنقلت العائلة بين النصيرات ورفح ودير البلح، حاملة صغيرتيها شام (٥سنوات)، ومريم (٣ سنوات)، في رحلة نزوح متواصلة.
في الخيمة، طبخت هيا على النار، وعاشت خوفًا دائمًا على صغيرتيها، واشتياقًا لأهلها في مصر. يقول محمد: “أكتر شي كان يوجعها الخيمة وفراق أهلها والخوف على البنات، كانت تسمع القصف وتخاف، بس تضلها تغني وتضحك عشان البنات ما يخافوا”.
رغم القصف وانقطاع الكهرباء والانترنت، تمسّكت هيا بعملها، “كانت تشتغل بأي مكان فيه كهربا، وتستنى اللحظة اللي تقدر تتواصل فيها مع أهلها بمصر، كانت تحب شغلها، وصوتها كان أمل للأطفال”، يضيف محمد.
كانت هيا أمًا حنونة لطفلتيها، وسندًا لعائلتها، “كنت أودعها يوميًا وأنا طالع على الشغل، وما بعرف إذا رح أرجع أو لا، وهي تطلع مع البنات تدوّر على كهرباء وانترنت عشان شغلها”، يوضح.
حين توقّفت الحرب مؤقتًا، عادت هيا لمنزلها في غزة، فعاد إليها الأمل مجددًا، لكن الفرح لم يدم طويلًا، فجر 18 مارس 2025م، استأنف الاحتلال الحرب، وسقط صاروخٌ قرب منزلهم، فتوقّفت قلبها عن النبض، للأبد.
“غزة مش بس بدها وقف قصف، بدها مستشفيات حقيقية، كانت ممكن تعيش لو فيه أجهزة حديثة”، يقول محمد، بعد أن قضت هيا أكثر من عشرة أيام بين الحياة والموت في مستشفى الكويتي، قبل أن ترحل في الأول من أبريل.
يرسل حاليًا محمد ابنتيه إلى الروضة، علّ في التعليم والحياة اليومية ما يرمم شيئًا من انكسارهن. شام، التي لم تُنهِ عامها الخامس صارت نسخة مصغرة من هيا: في نظراتها، في نبرة صوتها، حتى في طريقة ضحكتها، “كنت أفكر إنه مع الوقت الواحد بنسى، بس اشتقت لكل شي فيها… لصوتها، لحديثها، لضحكتها”، يقول محمد ثم ينخرط بالبكاء.
ويخالف ما تعرضت له هيا اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت في مادتها (3) الاعتداء على المدنيين بالقتل أو التشويه أو المعاملة القاسية.
كان حلم هيا الكبير أن تؤسس استوديو خاصًا بها، لتقديم محتوى ترفيهي هادف يعزز القيم ويعلم الأطفال بطريقة ممتعة، وأن تشتري شقة تأوي العائلة، “كانت بدها كل طفل يسمع صوتها ويضحك، وبناتنا يتعلموا ويعيشوا بأمان، ويتزوجوا ناس يحبوهم ويخافوا عليهم”، يكمل محمد.
يتابع: “فقدان هيا كسرني، ولكن بوعدها أربي البنات مثل ما كانت تتمنى، ويحفظوا القرآن عشان يلبسوها تاج الوقار بالجنة”، يتنهّد ويصمت لحظة ثم يضيف: “أنصح كل الأزواج والزوجات أن يحافظوا على بعضهم، الحياة قصيرة، ولا أحد يعلم ما تخبئ له الأيام”.