المواصلات تلتهم جيوب الغزيين وتفرض ماراثون الركض
المواصلات تلتهم جيوب الغزيين وتفرض ماراثون الركض
النصيرات- سالي الغوطي:
“مرة وانا رايحة على الشغل فجأة مطّرت الدنيا وتبهدلت ملابسي، واضطريت أرجع لخيمتي عشان أغيرها”.
هكذا، لخّصت المحامية رندة الزقزوق ما يحدث معها وهي في طريقها إلى مكان عملها، حين يصادفها مرّة يوم ماطر، وتارة حارًا، وهي مجبرة على السير مسافات طويلة في طرقاتٍ مدمّرة يملؤها ركام المنازل المقصوفة، تبحث عن جدارِ بيتٍ تستظل فيه قليلًا قبل أن تكمل الطريق، فهي اختارت عدم ركوب سيارات الأجرة بسبب الغلاء الشديد في تكاليف المواصلات في قطاع غزة.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، يعاني المواطنون الفلسطينيون ارتفاعًا شديدًا في أسعار المواصلات تجاوزت خمسة أضعاف السعر الطبيعي، ما يجعل الغالبية غير قادرين على مجاراة هذه المبالغ، فاضطروا إلى اختيار السير على الأقدام حتى في حال المسافات الطويلة، أو السير نصف المسافة وركوب المواصلات بنصفها الثاني.
عودة إلى رندة، التي تهرول – كل صباح- من خيمتها وتسير مسافة 2 كيلو مترًا، لتصل إلى أقرب مكان تجد فيه سيارات أجرة، لتصل إلى مكان عملها المتنقّل بسبب نزوحها المتكرر، وتبدأ كل مرة معاناة جديدة تلتهم راتبها.
تقول رندة: “أسير يوميًا من الحي الإماراتي غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، حتى دير البلح وسط القطاع، قبل الحرب كانت المواصلات خمسة شواقل والآن تضاعفت إلى 35 شيكلًا ذهابًا وإيابًا، بعدما أقطع نصف الطريق سيرًا على الأقدام”.
تضيف: “أحيانًا أضطر لركوب سيارة ودفع أجرة خيالية، فهذا أفضل من المشي في طرق تتسرب فيها المياه والصرف الصحي والمليئة بالقاذورات، أنا أمام خيار إرهاق الميزانية أو التعب الجسدي والنفسي”.
وتؤكد رندة أن الحل الوحيد للمشكلة في ظل تضاعف أجرة المواصلات، هو وقف الحرب، والبدء في إعادة إعمار قطاع غزة، وفتح المعابر للسماح بدخول الوقود والغاز والسولار، إضافة إلى توفير مواصلات مجانية للمؤسسات التي تعمل على خدمة الفئات الهشة المتضررة من الحرب.
“نفسي أقضي وقت مع أولادي”، هذا ما قاله مدحت عليان (38 عامًا) وهو أبٌ لثلاثة أطفال: “أسير مسافة 7 كيلومترات في بعض الأيام، عملي الميداني في جمعية يتطلب مني التنقل من مكان لآخر من أجل خدمة النازحين، ما إن أصل البيت حتى ألقي جسدي على الفراش وأذهب في نوم عميق من شدة التعب”.
رفع قبعته عن رأسه مشيرًا بيده إلى اختلاف لون بشرته بسبب الشمس وأكمل: “من أجل ركوب السيارة أو حتى الكارو، يجب عليّ العمل بأكثر من مهنة لأستطيع توفير الأجرة السياحية، فتكلفة أجرة سيارات في الشهر تصل إلى 500 شيكل مع السير لمسافات طويلة”.
يتابع: “قبل الحرب كنت أركب السيارة دون السؤال عن الأجرة، وأحيانًا نتسابق في البحث عن سيارة جميلة لنركبها، اليوم لا خيارات، سيارات مهترئة ودخل مفقود وصواريخ الموت في كل مكان”.
وحسب قانون حماية المستهلك بند 21 لعام 2005م، فإن وزارة الاقتصاد مسؤولة عن توفير السلع والخدمات ومنع استغلالها والتلاعب بها.
يوافقهم الرأي أحمد رحمي المتواجد في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، والتي تتعرض لنزوح كبير، أن السبب الرئيسي الذي أجبر الغزيين على المشي هو غلاء الأجرة نتيجة شح الوقود وارتفاع أسعارها، وقلة السيولة وانعدام الدخل وقلة المواصلات في المناطق المدمرة التي من الممكن أن تعرض الأشخاص إلى الخطر كونها غير آمنة.
يتابع: “تتبادر للذهن حسابات كثيرة في لحظة اختيار المشي أو ركوب السيارة فتجد ركوب السيارة أفضل من أن ترهق نفسك جسديًا ونفسيًا وتكون غير قادر على مواصلة عملك، أو حتى من الممكن أن يكون التأخر الدائم عن العمل سبب في أن يفقدك عملك، وأنت في غزة بحاجة كبيرة إلى العمل لتستطيع إكمال يومك”.
يؤكد د.رائد حلس الباحث في الشأن الاقتصادي، أن قطاع غزة خلال الحرب، شهد ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار أجرة المواصلات، نتيجة الانقطاع الكامل لإمدادات الوقود بفعل إغلاق المعابر، ما أجبر السائقين على اللجوء لبدائل مكلفة وخطيرة مثل غاز الطهي الذي وصل سعره إلى 200 شيكل للكيلو الواحد، والسولار المخلوط بزيت الطهي، بسعر 45 شيكلًا لليتر.
وأضاف حلس أن هذا الارتفاع انعكس على أجرة نقل الركاب، في وقتٍ يعاني فيه المواطن الغزّي من أوضاعٍ اقتصاديةٍ كارثية، حيث وصلت نسبة البطالة إلى 80% والفقر إلى 100%، مع انعدام شبه تام للأمن الغذائي، وصل إلى مرحلة المجاعة، فأدى ارتفاع تكلفة النقل إلى الحدّ من قدرة المواطنين على التنقّل لتلبية احتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء وتعليم، ما زاد من معاناتهم.
ورأى حلس أن دور وزارة الاقتصاد في غزة شبه معطل، بسبب المخاطر الأمنية المباشرة على طواقمها، كما أن تحديد أسعار الأجرة ليس من اختصاصها المباشر، بل يعود إلى وزارة النقل والمواصلات، وتنفيذ هذا الدور يكاد يكون مستحيلًا خلال الحرب.