فاقدو البصر بغزة… طابور طويل بانتظار أمل مفقود
فاقدو البصر بغزة… طابور طويل بانتظار أمل مفقود
غزة- فداء حلس:
تتحسس هديل أبو فول (18 عامًا) عينيها، ثم تهزّ رأسها بيأسٍ وهي تتمتم: “لم أتوقع أن أفقد بصري، الحرب قلبت حياتي تمامًا”.
كانت هديل تسكن مع عائلتها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وظلّت في بيتها حتى بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، وفي مايو 2024م، أجبر الاحتلال الإسرائيلي سكّان مدينة رفح على النزوح خارجها، وأثناء نزوح عائلة هديل حدثت الكارثة.
تقول هديل: “أطلقت مسيرة إسرائيلية صاروخًا علينا خلال نزوحنا إلى مدينة خانيونس”، يختنق صوتها وهي تكمل: “أبي وأمي استشهدوا وأنا بطلت أشوف بعيوني، عندي إخوتي أمير وأنس أطفال، وحاليًا صديقة أمي اللي بتهتم فينا”.
تعيش حاليًا أبو فول مع صديقة والدتها في خيمةٍ غرب دير البلح وسط قطاع غزة، وهي التي تهتم برعايتهم، ورغم فقدان أبو فول لبصرها، منذ يونيو 2024م، إلا أنها تحاول مواصلة تعليمها في الثانوية العامة، من خلال تطبيقٍ ناطقٍ يساعدها على متابعة دروسها.
تصف أبو فول ما حدث معها بالكارثي، تتنهد وهي تكمل: “بعد أسبوع من وجودي بالمستشفى، والشاش الأبيض على عيوني، وبعد رفعه، كنت بشوف خيال بس، وبعد خمس شهور فقدت البصر تمامًا”.
أجمع الأطباء أن الرؤية لن تعود مجددًا، خاصة أنه لا يوجد أعصاب ولا قرنية وشبكية، فجميعها تلفت بسبب الإصابة، تعقّب هديل: “أصعب اشي مر عليا بحياتي”.
رغم ذلك استمرت هديل بالبحث عن علاج، علّ بصرها يعود مجددًا، غير أن ذلك عاد بالسلب عليها، نتيجة عدم وجود أدوية أصلًا، أو حتى أجهزة تشخيص لمرضى العيون، حسب ما أوضحت، لكنها لم تتقبل بعد فقدانها للبصر، وتأمل بإجراء عمليةٍ جراحية خارج قطاع غزة، تعيد لها نظرها.
هديل هي واحدة ممن أصيبوا بفقدان النظر نتيجة التأخّر في علاج حالتهم، ليضافوا إلى آخرين ولدوا وهم فاقدي البصر، لكنهم يعانون في الحصول على الأدوية الخاصة بهم.
تمامًا مثل أروى ضاهر (27 عامًا)، وهي من سكّان حي التفاح شرق مدينة غزة، والتي وُلدت بإعاقة بصرية، حيث شخّصها الأطباء منذ الصغر بالتهاب صمغي ملون في الشبكية يمنع الرؤية، حاولت البحث بكل السبل عن علاجٍ لكن دون جدوى.
اليوم لا تجد أروى في غزة سوى معاناتها، إذ توقفت كل العلاجات الخاصة بها منذ بداية الحرب، تقول بصوتٍ مختنق: “أعيش على وجعٍ يلازمني طيلة الوقت، فالأدوية الخاصة بتخفيف وجع العيون مفقودة تمامًا”.
توضح: “وجعنا غير مقتصر على معاناة فقدان البصر؛ بل نحتاج لأدوية وقطرة تخفيف ضغط العين، أعاني أيضًا من فشلٍ كلوي منذ عامين ونصف، زادت معاناتي في الحرب خاصة بسبب النزوح المستمر من مكانٍ لآخر، وهذا شكل عبئًا عليّ وأزمة نفسية”.
تفاقمت معاناة أروى خلال الحرب، فهي تعيش الخوفَ مضاعفٌ أثناء القصف، والنزوح جعلها في مواجهةٍ مباشرة مع الخطر، خاصة كونها فاقدةً للبصر.
وفي ظل التدهور المستمر بالمنظومة الصحية في قطاع غزة، لا تستطيع وزارة الصحة الفلسطينية توفير العلاج الخاص بمرضى العيون، أو حتى إجراءِ عملياتٍ جراحيةٍ لهم، بسبب غياب الأجهزة التشخيصية، وتدميرها من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.
يؤكد د.حسام داوود، استشاري طب وجراحة العيون في مستشفى العيون بغزة :” الكثير من مصابي الحرب فقدوا بصرهم بسبب قلة الأدوية والمعدات والأجهزة الطبية، معظم الإصابات كانت من الشباب والفتيات، وأصبحوا الآن فاقدى البصر”.
ويوضح داوود والحاصل على زمالة جراحة القرنية وأمراضها، أن مرضى ارتفاع ضغط العين كان لهم عيادةٌ خاصةٌ تهتم في رعايتهم، لكن بسبب فقدانِ الأجهزةِ التشخيصيةٍ، جزءٌ كبيرٌ منهم فقدوا بصرهم، والعامل الأهم فقدان الأدوية المثبّطة لضغط العين، أو ندرتها وشحها.
وتابع بأن المرضى كانوا يحصلوا على ثلاث أنواع من القطرات، الآن يستخدمون واحدة، ما أدى إلى تذبذب ضغط العين، وأثّر سلبًا على العصب البصري، وجزء كبير منهم فقدوا مجال الإبصار الصحي.
وتابع: “مرضى جراحة القرنية الأشخاص الذين تعرضوا لانفصال شبكي أو قطع في الشبكية ولم نستطع تدارك حالتهم في الوقت المناسب، وانتظروا لأشهر طويلة حتى جاء مدد من الخارج”.
يوضح داوود أن وفدين وصلا من الجزائر ومصر في ديسمبر 2024م، لإجراء عمليات جراحية لمرضى جراحة القرينة (الأشخاص الذين تعرضوا لانفصال شبكي أو قطع في الشبكية)، تم انقاذ بعض الحالات؛ وحالات أخرى لم تُقدم الرعاية المطلوبة لهم نتيجة تأخر العلاج وعدم الاستفادة من هذه الرعاية.
وأضاف داوود: “نحو 500 حالة فقدوا بصرهم نتيجة عدم توفّر المستهلكات اللازمة والأجهزة الجراحية الطبية لهؤلاء المرضى”.
وحسب د.داوود، فإن عمليات المياه البيضاء توقفت لفترة طويلة خلال الحرب، وعاد العمل لإجراء هذه العمليات خلال الحرب منذ إبريل 2024م، لكن بوتيرة قليلة، وهناك أكثر من 1000حالة في مشفى العيون وحدها بحاجة ماسة لاستئصال المياه البيضاء وزراعة عدسة، رغم أنها تعدّ من أبسط العمليات التخصصية لجراحة العيون.
ويتناقض ما تعرّض له المرضى مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (23) على كفالة حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية، وحرية مرور أي رسالات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال دون الخامسة عشرة من العمر، والنساء الحوامل والنفاس.
وختم د. داوود بأن وزارة الصحة تقع عليها مسؤولية كبيرة تجاه المرضى، غير أنه المنظومة الصحية في القطاع غير قادرة على مساعدة المريضة نتيجة عدم توفر العلاج المناسب ومنع الاحتلال إدخال الأدوية.