رغم الفقد والتشريد.. ياسمين تداوي المصابين وفاءً للإنسانية
رغم الفقد والتشريد.. ياسمين تداوي المصابين وفاءً للإنسانية
غزة – هبة أبو عقلين:
في قلب مدينة غزة، حيث تتعالى أصوات الطائرات والقصف اليومي، تخوض الطبيبة ياسمين أبو سيف (27 عامًا) معركتان، الأولى في ساحة الطب والثانية على جبهة العائلة!
على ساحة معركتها الأولى، تسابق ياسمين الزمن لإنقاذِ حياة المصابين في مكان عملها بعيادة حيدر عبد الشافي في مدينة غزة، بينما تعيش معاناة النزوح في أحد المخيمات وسط مدينة غزة، بعدما نجت من الموت وانتشلت من تحت أنقاض منزلها، وفي ذات الوقت، تنتظر بقلبٍ ملتاع، الإفراج عن والدها من سجون الاحتلال، والذي اعتقلوه نهاية ديسمبر 2024م.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، أصرّت ياسمين على أداء مهمتها الإنسانية، من خلال عملها في المستشفى الأندونيسي في بيت لاهيا شمال قطاع غزة والواقع قرب بيتها، بينما تصاعدات أوامر التهديد الإسرائيلي للمدنيين تطالبهم بالنزوح إلى جنوب قطاع غزة.
“لم يكن الصمود سهلًا، فالاحتلال استهدف المستشفيات بشكلٍ مباشر، كنت أقوم بعملي على أصوات الانفجارات وأجواء الرعب التي تحيط المكان، تقول الطبيبة ياسمين، وهي تجلس وسط خيمتها المتواضعة، وتضع إلى جوارِها أدواتها الطبية الخاصة، ومعطفها الأبيض.
“كان الوضع يزداد خطورة، قررت أنا وعائلتي عدم النزوح، وبقينا في المنزل من أجل مواصلة عملي، وعند خروج المستشفى عن الخدمة بسبب العدوان الإسرائيلي عليه بالقصف والتدمير، انتقلت للعمل في مستشفى كمال عدوان في جباليا، رغم خطورة الأوضاع هناك والتي تسوء يومًا بعد يوم”، تقول ياسمين.
تتنهد وتكمل: “كانت الحياة شبه معدومة، المجاعة تلاحقنا في كل مكان، والطعام أصبح شحيحًا، بينما نواصل العمل لساعات طويلة تحت ضغط العدد الكبير من الإصابات والشهداء الذين يصلون المستشفى، ورغم المعاناة الشديدة، لم نستطع الحصول على الطعام، أصيب زملاء لي بالإغماء بسبب المجاعة التي لاحقتنا خلال الحرب”.
لم يكن صمود ياسمين سهلًا في ظل استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات، تعمل لساعات طويلة دون توقف، وأصوات الانفجارات محملة بكل رعب وألم الدنيا.
ويتنافى استهداف القطاع الصحي مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (18) التي تحظر الهجوم على المستشفيات، كما تفرض الاتفاقية توفير الرعاية الطبية للمرضى وخاصة النساء والأطفال وكبار السن، وتؤكد أن توفير الإغاثة الإنسانية في حالات الحرب أمر بالغ الأهمية.
تتنهد ياسمين وتكمل: “الحالات التي كانت تصلنا مروّعة، أعجز عن وصفها بالكلمات، الجثث ممزقة والدماء التي تغرق الغرف جعلتنا نعيش في حالة صدمة مستمرة، لكن ما يؤلمنا أكثر هو الأطفال الذين فقدوا أهلهم، كنت أرى الأطفال يبكون، يبحثون عن أمهاتهم وآبائهم ونحن لا نملك لهم شيئًا سوى محاولة التحفيف من ألمهم الجسدي”.
طوال هذه المدة، صمدت د.ياسمين في منزلها مع عائلتها المكوّنة من والدها رامي أبو سيف، ووالدتها منى، وإخوتها حسن ومحمد وسماح، عاشوا جميعًا أوقاتًا في غاية الصعوبة تحت الحصار الإسرائيلي لهم.
استهدف الاحتلال باب منزل عائلة ياسمين بقذيفة، فاستشهدت ابنة عمها، وكانت بداية عاصفة من المعاناة مع تزايد التهديدات الإسرائيلية لهم بإخلاء البيت.
تكمل: “شعرت بألمٍ لا يوصف وأنا أرى ابنة عمي شهيدة، أصبحنا نعيشُ حالة من التوتر المستمر، كانت قوات الاحتلال ترسل تحذيرات قاسية لإخلاء المنطقة، وعندما رفضنا أرسلوا لنا روبوتًا متفجرًا استهدف المنزل كله، ومع انفجاره وجدنا أنفسنا تحت الأنقاض، نجونا بأعجوبة، لكن قلوبنا تعتصر ألمًا”.
نزحت العائلة إلى منطقة تل الزعتر في جباليا، لكن والد ياسمين آثر الذهاب إلى مستشفى كمال عدوان معتقدًا أنه أكثر أمنًا، طالبهم الاحتلال مجددًا بإخلاء المنطقة تمهيدًا لتدميرها، فنزحوا إلى مدينة غزة، “كان في قلبي غصة ألم على فراق منزلنا، لكن لم أتوقّع أن أتعرّض لفقدٍ جديد”.
وتنص اتفاقية جنيف الرابعة في مادتها (49) على حظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين، أو نفيهم من أراضيهم المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو دولة أخرى، ومنع التهجير قسريًا.
ومع نزوحها إلى مدينة غزة، أنشأوا خيمة في أحد مخيمات النزوح وسط مدينة غزة، تعاني فيها من فقدان الخصوصية، وظروف معيشية صعبة نتيجة شحّ الخدمات والمياه والطعام.
بينما كان عم ياسمين يحاول الوصول إلى مستشفى كمال عدوان استشهد نتيجة استهدافه بصاروخ إسرائيلي، وكان هذا هو الفقد الثاني خلال أيام، تلاه اعتقال جيش الاحتلال لوالدها من المستشفى مع طاقم مستشفى كمال عدوان، ولم تعلم عنه شيئًا، تقول: “نعيش حياة متعبة في الخيام وفي ذات الوقت حياتنا معلّقة في دائرة من القلق المستمر، ولا نعرف متى يحين الفرج”.
تختم ياسمين: “كنت وما زلت أعمل لأنني مسؤولة عن حياة الناس، لم يكن لديّ خيارٌ آخر، حتى لو كانت حياتي على المحكّ، حياة الناس غالية، فكان عليّ الصمود”.