أحلامهن تبدّلت دموعُ شوقٍ وحسرةٍ في قلوب فتياتٍ نازحات

أحلامهن تبدّلت

دموعُ شوقٍ وحسرةٍ في قلوب فتياتٍ نازحات

خانيونس-دعاء برهوم

منذ كانت طفلة، خطّت الطالبة ديما أبو يوسف (17 عامًا) حُلمها على جدرانِ غرفتِها، بأن تصبح طبيبةُ أعصابٍ تداوى المرضى، لكن حياتها انقلبت رأسًا على عقبٍ منذ يوم 7 أكتوبر /تشرين الأول 2023م، وبات حُلمها بعيدًا!

كانت ديما تسكن قرية المغراقة جنوب مدينة غزة، طالبةٌ متفوّقة في مدرستها، بحصولِها على الترتيب الأول سنويًا، قبل أن تدفعها آلة الحرب الإسرائيلية إلى تركِ مقاعد الدراسة مرغمة، واستبدالها بالوقوفِ في طوابير المياه وتكيات الطعام لساعات.

في 7 أكتوبر /تشرين الأول 2023م، شنّت إسرائيل حربًا على قطاع غزة، وبعد أسبوعٍ أجبرت سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه، في مخالفةٍ لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر التهجير القسري للمدنيين، حيث عاشوا في مخيمات للنازحين.

تقول ديما: “قبل الحرب بشهرين، كنت في الصف الـ(11) علمي، حينها شعرتُ بالفرح لأني اقتربتُ من تحقيق حلمي، بلمح البصر تركنا كل شيء خلفنا وبحثنا عن مكانٍ آمن، لكن وجدنا أنفسنا أمام ظروف قاسية ومعاناة جديدة”.

الحلم البعيد

تضيف: “عندما نزحنا إلى مدرسة الرازي في منطقة النصيرات وسط قطاع غزة، شعرتُ بغصةٍ في قلبي، حين حوّلنا صفُ المدرسةِ إلى غرفةِ معيشة تأوي عشرات النازحينَ الذين فروا من بيوتِهم بسبب قصف الاحتلال الإسرائيلي للمربّعاتِ السكنيةِ على رؤوس سكّانها”.

تحلُم ديما بالعودة لحياتها الطبيعية، ومواصلة دراستها في الثانوية العامة، وأن يُذاع اسمها من بين أوائل فلسطين، لكن يبدو أنه بات بعيد المنال، بسبب تواصل حرب الإبادة للعام الثاني على التوالي، فمصير جميع الطلبةِ باتَ مجهولًا.

تتشبّث ديما ببصيصِ أملٍ عبرَ إمكانيةِ مواصلةِ التعليم من خلال الانترنت، لكن مخيماتِ النزوحِ تفتقر للإنترنت، إضافة لعدم قدرة الطلبة على توفيرِ هواتف محمولة، وتأمل بانتهاء الحرب قريبًا، والعودة لمدرستها، بعيدًا عن النزوح ومعيشة الخيام، التي أطاحت بخصوصيتها وأحلامها أرضًا.

في مخيماتِ النزوحِ، تجتمع الفتيات كل صباحٍ لتعبئة جالونات المياه التي تعينهم على استكمالِ حياتِهم اليومية؛ داخل الخيام المهترئة بفعلِ حرارةِ الصيف، ثم يقفنَ في طوابيرِ التكيات للحصول على كمياتٍ من الطعام، إن سدّت جوع العائلة، فلن تكون ذات قيمة غذائية عالية.

وسط زحمة الأطفال داخل مخيم (الصمود) غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تقف الطفلة ملك أبو وطفة (10 أعوام)، تنتظر من يخبرها بموعدِ مرورِ سيارة تعبئة مياه الشرب، تتقدم الطابور حاملة جالون فارغٍ لتعبئته.

لا تعليم في الحرب

التحقت ملك بمركزٍ لتحفيظ القرآن الكريم داخل المخيم، تقول: “بدأت بحفظ القرآن منذ شهر، المدرسة شكلها مطوّلة، واستثمرت وقتي بالحفظ عشان تنشيط الذاكرة، بعد عامٍ كاملٍ من الجلوس بلا دراسة”.

تكمل:” كان حلمي أن أصبح ذاتَ يومٍ معلمة، أرشد طلابي إلى طريقهم الصحيح، لكن الاحتلال سلب مني حلمي بعد تدمير مدرستي، مدرسة المأمونية في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وتدمير كافة المدارس وتحويل الصالح منها إلى مراكز إيواء للنازحين مثلنا”.

بضحكةٍ خافتة، تخفي حزنًا عميقًا، تكمل ملك: “الخيمة مكان مش مناسب للدراسة بسبب الدوشة في كل المخيم، أنا لا أفكر حاليًا في التعليم إلا بعد انتهاء الحرب، أمضي وقتي في تعبئة المياه وحفظ القرآن واللعب مع أطفال المخيم حتى أنسى صوت القصف، لم أعد أشعر بالخوف بسببه حاليًا”.

حُرمت ملك كغيرها من الأطفال حقها الطبيعي في مواصلة التعليم، واللعب، وهي تخشى استمرارَ الحربِ وبقائِهم في مخيماتِ النزوح التي أرهقت أرواحهم وأجسادهم.

تتمنى ملك انتهاء الحرب، ووقف قتل الأطفال والعودة لحياتها السابقة، ومدرستها وزميلاتها، لكنها تخشى تأخّر العام الدراسي المقبل أيضًا؛ بسبب هدمِ عددٍ كبيرٍ من المدارس، وبقاء من فقدوا بيوتهم في الصالح منها.

استبدلت الفتياتُ داخل مخيماتِ النزوح الزي المدرسي بثوب الصلاة، بعدما أطاحت آلة الحرب بمستقبلهن التعليمي، وحوّلت المدارس إلى ركامٍ وأخرى لمراكز إيواء، الأمور أصبحت كارثية، إذ تفتقد الفتيات للخصوصية داخل هذه المخيمات، التي تفتقر لأدنى مقوّمات الحياة الإنسانية، يستيقظن مبكّرًا للمساعدة في توفير المياه والطعام والحطب لإشعال النار.

الطالبة آية أبو سيدو (13 عامًا)، تحاول لملمة شتات نفسِها، والخروج من المعاناة التي فُرضت عليها بالبحث عن مراكز للتعليم، للانخراط داخلها والعودة إلى الدراسة التي سلبت منها قسرًا بسبب الحرب.

تقول آية: “بعد عامٍ من النزوح المتكرر، فكّرت جيدًا أن عجلة الحياة ستمضي، ويجب عليّ تغيير الواقع بالاستمرار في التعليم، وتنشيط الذاكرة التي بدأت بالخمول، خاصة في مادة الرياضيات، تعثّرتُ في حلِ مسائل بسيطة؛ بالتالي أدركت نفسي مبكرًا بالتعليم”.

أوقفوا الحرب

الحرب أثّرت سلبًا على الطلبة كما تقول آية، ودمّرت مستقبلهم وحوّلت شغف الدراسة إلى كيفية الحصول على كوبونةٍ أو طبق طعام يسدّ جوع العائلة، بسبب الظروف الاقتصادية في الحرب، طموحاتها منذ الصغر تحطّمت وأصبح تحقيقها مجهولًا بعد تدمير سبل الحياة في قطاع غزة، وربما تُؤجّل الدراسة لسنوات.

تتابع: “قبل الحرب كنتُ قد دخلت مرحلة جديدة في التعليم، شعرتُ حينها بالشغف للدراسة، لأن المرحلة الإعدادية تحتاجُ إلى جهدٍ كبير، لكن أغلقت المدارس وأصبحت مراكز إيواء للفارين من القصف، شعرتُ بغصةٍ وحزن عميق، أتمنى أن تقف الحرب، ونعود إلى ركامِ بيوتنا ومدارسنا، لأننا بالعلم فقط نبني وطننا”.

ووفق تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن نحو 625 ألف طالبة وطالبًا في قطاع غزة، حرموا من حقهم في مواصلة التعليم، في مخالفة لنص المادة (50) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تفرض على دولة الاحتلال، بالاستعانة بالسلطات الوطنية والمحلية، حُسن تشغيل المنشآت المخصصة لرعاية الأطفال وتعليمهم.

بدورِها تقول الأخصائية النفسية إسراء الأخرس، إن الفتيات القاصرات في مخيمات النزوح يعانين من انعدام الخصوصية، وهدم مستقبلهن، بفعل تواصل الحرب وتحوّل المدارس لمراكز إيواء.

وأضافت إن ظروف النزوح تؤثر سلبًا على الحالة النفسية للفتيات، مثل شجارهن الدائم على طابور المياه مع الفتية، أو جلوسهن على بسطةٍ للبيع بدلًا من مقاعد الدراسة، الحرب فرضت عليهِن ظروفًا جديدة تفتقر للخصوصية والأمان، وتشعرهن بالقلق المستمر حيال عدم توفر مراكز للتعليم تستقطب الطلبة.

وبينت: “بعض العائلات تجبر الفتيات على الوقوف في الطوابير للحصول على الطعام، بسبب الظروف الصعبة، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية تعانيها الفتيات على المدى البعيد”.

بعد عامٍ من حرب الإبادة على قطاع غزة، وشلّ كافة مناحي الحياة، تحتاج الفتيات داخل مخيمات النزوح إلى توفير الدعم النفسي والتعليمي، وإنشاء فصول افتراضية تتناسب مع الواقع النفسي الصعب لهن، وتضمن عدم ضياع المزيد من سنواتِ عمرهن التعليمية.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى