استبدلت الشِعر بطوابير المخيم اسمعوا لقلبِ راما: (لو ضلينا بالدار كان هلقيت ميتين)
استبدلت الشِعر بطوابير المخيم
اسمعوا لقلبِ راما: (لو ضلينا بالدار كان هلقيت ميتين)
غزة – رفيف اسليم:
يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، كانت الطالبة راما الفيري (13 عامًا)، تستعدُ للذهابِ إلى مدرستها، لإحياء احتفالية سلّمتها إدارة المدرسة فيها العرافةُ وإلقاءُ الشعر، لكن أصوات الصواريخ التي انطلقت صباح ذلك اليوم أرجعتها إلى بيتِها، لتفتح عيناها على واقعٍ مختلف، نازحةً في مركزِ إيواءٍ تابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (اونروا)!
راما الفيري: “كان عنا بيت وكنا عايشين مرتاحين ومبسوطيين لكن الحرب ما خلت اشي”
تضعُ الطفلة راما يدها على خدِّها وهي تجلس داخل مركز إيواء في مجمع مدارس أبو زيتون بمنطقة جباليا شمال قطاع غزة، وتقول: “كان عنّا بيت، وكنّا عايشين مرتاحين ومبسوطين، لكن الحرب ما خلت إشي”.
كانت راما تعيشُ قبل الحربِ بمنطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، جعلت العائلة تشعر بالقلق من تواجدها في البيت، خاصة مع كثافة استهداف الاحتلال للمرافق الطبية، فقرروا ترك منزلهم يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، والبدء بأولى رحلات النزوح الشاقّة.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي، أجبرت يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، أكثر من مليون فلسطينية وفلسطيني، على النزوح من شمالِ قطاع غزة إلى جنوبه، في مخالفةٍ لاتفاقيةِ جنيف الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين.
تكمل راما: “لم تفكر عائلتي بالنزوحِ إلى جنوبِ القطاع؛ كون الموت يلاحقُنا في كلِ مكان، بالبيوت ومراكز الإيواء، اخترنا التنقّل شمال القطاع حتى تنجلي الغمّة”، مشيرةً إلى أنها وعائلتها مكثوا في بيتِ خالِها بمنطقة مشروع بيت لاهيا، لكن أبى الموتُ إلا أن يلاحقهُم هناك، يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، تم قصف المنزل المقابل لهم، اخترقت الشظايا البيت وأصيب والداها؛ براء الفيري (35 عامًا)، ووالدتها مريم الفيري (34 عامًا).
راما الفيري: “طلعنا نجري واحنا مش شايفين قدامنا”
“طلعنا نجري واحنا مش شايفين قدامنا”، تقول راما، لافتةً إلى أن خالها إسماعيل الفيري (36 عامًا) استشهد في اليوم التالي نتيجة الاستهداف، بينما نزحت العائلة إلى مدرسةٍ قريبة، عادوا إلى بيتهم يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، لأسبوعٍ خلال الهدنة التي أُعلنت بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وإسرائيل، وسرعان ما نزحوا مجددًا إلى مركز الإيواء بعد انتهائها.
راما الفيري: “لو ضلينا بالدار كان احنا هلقيت ميتين معهم”
“لو ضلينا بالدار كان احنا هلقيت ميتين معهم”، تفيد راما أنها كانت تسكنُ في نفسِ منزلِ جدّتِها أم أبيها الذي نسفه الاحتلال فوق رؤوس ساكنيه في 10 ديسمبر/كانون الأول 2023، لكن نزوحهم إلى المدارس هو ما كتب لهم عمرًا جديدًا، وما آلمها أن انتشالهم مِن تحتِ الأنقاض استغرق عدّة أسابيع تحت نيران القذائف المدفعية والطائرات المسيرة، لكن والدها أبى إلا أن يدفن أفراد عائلته.
عندما غُصنا في ذاكرة راما، كان مشهد إخراج خالها إسماعيل، وأعمامها عمر (22 عامًا)، أفنان (18 عامًا)، إبراهيم (13 عامًا)، وجدّتها، هو العالق في ذاكرتها، واليوم الذي نَسفَ فيه الاحتلال منزلها بالكامل، ودمّر فيه كل ذكرى جميلة عاشتها.
“كل اشي راح”، تحكي راما هذه الكلمات وهي تشير إلى أن كتبها وملابسها وألعابها وفراشها الذي تتدثر فيه شتاءً؛ دُفن تحت ركامِ بيتها، مضيفة: “هوايتي إلقاء الشعر ونَظمه، لم أعد أمارسها، ولا اللعب بالكرتون وصنع الدمى من طابقين وتخييط الملابس والأثاث لهم، مع إضاءة اللدات (نوع من الإضاءة البديلة) ليضاهي البيت الحقيقي”.
“صباحُ الخير يا وطني، صباحُ الحب والأمل”، هذه هي الكلمات التي كانت راما ستلقيها في الاحتفالية التي تزامنت مع يوم الحرب، مضيفةً: “وأنا صغيرة، كنت ألعب وأغني، وأدرس، فجأة حرمونا كل هذا، ذنبنا أننا فلسطينيون، عامٌ مضى وأنا بعيدة عن مقاعد الدراسة، وعن معلماتي وصديقاتي”.
راما الفيري: “صارت حياتي عبارة عن وقفة بالطوابير مرة للميه ومرة للتكية”
“صارت حياتي عبارة عن وقفة بالطوابير مرة للميه ومرة للتكية”، تقول راما التي اختلفت حياتها بالكامل، فهي تقضي النهار بين الطابورين، ومن ثم تتفرغ لدراسة المواد الأساسية، لغة عربية، انجليزية، رياضيات؛ ضمنَ فصولٍ بسيطة توفرها إدارة المخيم للطلبة النازحين، مع مواصلة حفظ القرآن الكريم.
تتمنى راما العودة للمنافسةِ في مسابقاتِ إلقاء الشعر، وحصد المركز الأول، والعودة لصديقاتها ومعلماتها، التي فقدت التواصل معهنَّ لنزوح غالبيتهن إلى الجنوب، وعدم امتلاكها أرقامَ تواصل مع الجميع لتطمئن عليهم، لافتة أنها بدأت من الصفر وجلبت دفترًا جديدًا لتدوين بعض الأبيات التي تخطر ببالها.
ووفق إحصائية لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن عدد طلبة قطاع غزة للعام الحالي 2024م، بلغ (625) ألفًا، حرموا من التعليم، وقالت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية إن (15) ألف طفل استشهدوا في قطاع غزة، أغلبهم من طلبة المدارس.
والدتها مريم الفيري، لديها عدا راما صبيًا يدعى جبر (14 عامًا)، وطفلتان براء (9 سنوات)، وشام (6 سنوات)، وهي مريضةٌ أجرت عمليةِ قلبٍ مفتوحٍ ولديها تشوّهٌ في الأعضاءِ الداخلية، وحاليًا تضغط عظمةٌ على قلبِها بطول 2 سم، تجعل حياتَها دومًا في خطر، وهذا ما زاد معاناتها كأمٍ نازحة.
مريم الفيري: “كنا بنعمة مش حاسين فيها، أما هلقيت جراي من هان لهان طول اليوم ياريت عفايدة”
تروي الأم إن حالة شام ساءت مؤخرًا، بسبب غيابِ التحويلات الطبية والأدوية، بل قد يصل سعر الإبرة الواحدة (300$)، ومع كل ما تمرّ به تصف حياتها قبل الحرب (كنا بنعمة مش حاسين فيها، أما هلقيت جراي من هان لهان طول اليوم ياريت عفايدة).
تفتقد مريم النظام الذي كانت تعيشُه مع أطفالِها قبل الحرب، سواءً من خلال ساعات الدراسة أو النوم أو المرح، فهي أيام الدراسة والإجازات، كانت تجدُ لأبنائِها ما يدرسوه، كي تبقى ذاكرتهم نشِطة، أما اليوم لا مجال للمذاكرة.
“تحلُم راما أن تكون طبيبةً لتعالج أختها، ويتمنى جبر أن يكون حكيمًا ليساعد أخته الكبرى في ذات المهمة”، تقول مريم بينما تخترق الطفلة براء أحلامهم لتضيف: “وأنا أعدُّ لكم الطعام”، لينتهي الحوار بتعالي ضحكات العائلة التي أصبحت لا تعرف للضحكِ طريقًا كما تروي الأم.
مريم الفيري: “هو في أكل غير المعلبات”
“هو في أكل غير المعلبات”، تشير مريم لبعض العلب، وتخبرنا إن سكّان شمال القطاع لا يملكون رفاهية اختيار طعامهم، فهم يعيشون على علب الفول والحمص والبازيلاء، أما الخضراوات التي كانت طبقًا أساسيًا أصبحوا لا يستطيعون شراءها، ويضاف لهذا العذاب قدوم فصل الشتاء وحاجة الأطفال للملابس والشوادر التي تحجب الأمطار عن الخيمة.
“صرنا مغتربين واحنا ببلادنا”، إضافة إلى الجوعِ والتشريدِ والنزوحِ والخوفِ والفقد، عايشت مريم كما تقول تجربة الاغتراب عن عائلتها، فإخوتها الثلاثة نزحوا للجنوب، فيما تم اعتقال شقيقها بلال (39 عامًا)، أثناء نزوحِه للجنوب، وأُفرج عنه لاحقًا، ولم يتبقَ في الشمال سوى والدها ووالدتها، وزوجات أشقاء زوجها، يعيشوا الآلام ذاتها.
وتحظر المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الرابعة، الاعتداء على الأشخاص غير المشتركين في القتال، فلا يجوز قصفهم أو حصارهم في مراكز الإيواء، كما تنص المادة (18) من ذات الاتفاقية بأنه لا يجوز المساس بالمستشفيات، خلافًا لما حدث مع عائلة راما التي فرّت من بيتها بسبب استهداف المستشفيات.
وتنص المادة (39)، من ذات الاتفاقية على ضرورة توفير فرص عمل للأشخاص الذين فقدوا عملهم بفعل الأعمال القتالية، ويجوز للمحميين تلقي المعونات، وتحظر المادة (30) فرض التجويع كعقاب جماعي مثلما يحدث في شمال قطاع غزة.
مريم الفيري: “اطلعوا اطلعوا هيها ورانا”
أما أصعبُ المشاهدِ التي عايشتها مريم، فكانت حصارَ آلياتِ الاحتلالِ للمدرسةِ التي نزحوا إليها منتصف شهر يوليو/تموز 2024م، والخروج حافية القدمين وهي تصرخ (اطلعوا اطلعوا هيها ورانا)، والتي فقدت خلالها آخر ما تمتلكه من متاع، كي تنجو بروحِها، وفرت إلى حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، وهي لا تنسى الهلع على وجه صغارِها وكيف بقوا طوال اليوم يرفضون الطعام والشراب.
براء الفيري: “ربنا الي بدبرها مش أنا”
من جانبه يوضح براء الفيري والد راما، إن إعالة أسرة في شمال القطاع أحد أفرادها مصابٌ بمرضٍ مزمن؛ مع ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ليس سهلًا، ويتطلب من الإنسان أن يكونَ متعدد المهن كي يؤمّنَ لقمةِ عيشِ عائلته وثمنُ الدواء، لكن يعقب: “ما يهونها عليّ الثقة بأن ربنا اللي بدبرها مش أنا”.
ولدى سؤالِه كيفَ يتدبّر أموره، يجيب إنه في البداية كان يستدين مبالغَ بسيطةً على أملِ انتهاء الحرب في فترةٍ قصيرة، ومع طول الحرب وفقدانِه لمحالِه وعملِه، وهو عبارة عن مقهى صغير ونسفِ بيته، اختفت آمال أي بوادرٍ لمستقبل كريم، لكنه لا يملكُ خيار سوى الكد طالما أخطأته نيرانُ الاحتلال.