استشهد ابنها بعدما ترك المدرسة بسبب التلوّث نيران تأكلُ قلب أم محمد وجلدها أيضًا
استشهد ابنها بعدما ترك المدرسة بسبب التلوّث
نيران تأكلُ قلب أم محمد وجلدها أيضًا
دير البلح – هبة أبو عقلين
تتحدّث أم محمد والدموع تصبُّ صبًا على وجهها: “في لحظة خسرتُ ابني أحمد (39 عامًا) ووحيدته ميرا (10أعوام)، وبيتي، وجميع ذكرياتي، كنا في مركز إيواء يحمل الكثير من التلوّث ويسبب الأمراض والأوبئة، وليس لدينا خيارٌ آخر”.
بهذه الكلمات تحدّثت أم محمد الأيوبي (62 عامًا) وهي تروي، كيف تسببت الظروف البيئية السيئة في ترك ابنها لمركز إيواء ليستشهد داخل منزلهم في حي الزيتون شرق مدينة غزة.
أم محمد: ابني ما تحمّل عيشة المدرسة وكانت سبب استشهاده
تكمل: “عاد أحمد وزوجته إسراء وطفلتهم ميرا من مدرسة الدرج إلى بيتنا في حي الزيتون، لأنه لم يتحمّل العيش بمركز إيواء، حيث كل صفّ يضمُ 8 عائلات، لا خصوصية ولا نظافة ولا أحد يستطيع الذهاب إلى دورة المياه دون طابور انتظار قد يأتي دوره بعد ساعة، ابني طلع مش قادر يستحمل عيشة المدرسة وكانت سبب في استشهاده”.
وكانت سلطات الاحتلال أعلنت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، الحرب على قطاع غزة، وأجبرت يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول مئات آلاف المواطنين من سكان شمال القطاع على النزوح جنوبًا، ما أدى إلى اكتظاظ شديد داخل المخيمات ومراكز الإيواء، تسبب في انتشار الأمراض.
تعيش أم محمد (أمٌ لسبعة أبناء)، داخل خيمة ضمن مخيم أسموه (مخيم السويد)، شمال مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تعاني من مرضٍ جلديٍّ أصابها نتيجة التلوث وانعدام المصارف الصحية داخل المخيم كما هو الحال الذي أصاب غالبية نساء المخيم.
تتابع أم محمد: “بتاريخ 7/11/2023م، كنا في البيت والقذائف تنهال على منطقتنا، بسبب اقتراب آليات الاحتلال الإسرائيلي من منطقة الزيتون، قرر أحمد النزوح إلى أحد مدارس الإيواء وذهبت معه، وين ما بروح أحمد أنا معه، كان الأكثر قربًا لي بعد وفاة والده عام 2003، ولم يكن لدينا خيارات سوى مدرسة الدرج”.
يوم 17/11/ 2023، الساعة السادسة صباحًا قرر أحمد الخروج من المدرسة والذهاب للبيت، تكمل أمه: “سألته وين بدك تروح يما حكالي شوية وراجع”.
آية الأيوبي: سألت أحمد عن المدارس حكالي مقرفة والحمامات طافّة والناس فوق بعض
آية الأيوبي (25 عامًا) هي زوجة خليل الأيوبي (34 عامًا) ابن أم محمد وأمٌ لطفلين هما إسلام (6 أعوام) وجوليا (عامان)، تعاني أيضًا من ذات المشكلة.
تقول: “لم أنزح مع والدة زوجي بسبب نزوح أهلي في بيتنا بعد قصف بيتهم بمنطقة تل الهوا غرب مدينة غزة، فش مكان تاني فقرروا ييجوا عندي”، كانوا (25) فردًا في الطابق الأول من البيت خوفًا من القذائف، العدد كبير، تعذّر عليهم الخروج، ولا يوجد أماكن آمنة”.
يوم الجمعة الساعة السادسة صباحًا، دُهشت آية بعودة أحمد، تقول: “سألته كيف الوضع بالمدرسة، حكالي: (المدارس مقرفة والحمامات طافّة والناس فوق بعض، جاي آكل لقمة نضيفة وأعدّي الحمام وأرجع).
بعد ساعة عادت زوجته إسراء وطفلته ميرا، ومع المغرب، اشتد القصف وصوت القذائف اقترب، فجأة سمعت آية صوتًا من شدّته لم تسمع صوت أحد، وبدأت الحجارة تنهال، صرخت بصوتٍ عالٍ “وينكم”، ردّت إسراء: (أنا هيني إلحقوا أحمد)، كان الجدار قد سقط عليه وعلى طفلته التي استشهدت على الفور، حاولوا إنقاذ أحمد الذي كانت تظهر يده من تحت الأنقاض.
تكمل: “وجدت ابن أختي دعاء وقد خرجت أحشاؤه وأشلاء ابنها وزوجها، وكان وجه دعاء ملطّخًا بالدماء، وعروق وجهها ظاهرة وعيناها مفتوحتان، لم أستوعب ما جرى وفقدت وعيي”.
تكمل أم محمد: “ابني محمد طلب مني الطحين (دقيق)، لم يكن لدينا طعام، رجعت للبيت منو باطمن على خليل زمان ما شفته ومنو بجيب أكل لابني وأولاده، عدتُ سيرًا على الأقدام، سمعت ضربة، صرخ أحدهم: “ارجعي يا حجة في مجزرة هناك”، ولما اطلّعت لقيت المجزرة في بيتنا”.
بفزعٍ صرخت أم محمد حين رأت أحدهم يحمل جثة، وقالت “خليل”، فقالوا “لا أحمد”، وفي ظل استحالة وصول الإصابات إلى المشافي بسبب انقطاع الاتصال وعدم توفر المواصلات، كان التكتك وسيلة النقل، حملوا أحمد وقد كان مصابًا، ونقلوه إلى مستوصف الزيتون، وبعد انتظار ساعة وصل الإسعاف لنقلهم إلى المستشفى الأندونيسي شمال القطاع، تم دفن ميرا بأرض المستوصف مع باقي أفراد عائلة آية، وفي 18/11 صباحًا استشهد أحمد بسبب اقتراب آليات الاحتلال وتأخر علاجه.
أصيبت أم محمد بفوبيا من صوت القذائف، كلما سمعت صوتها تُصاب بحالة ذعر ونوبة بكاء تجعلها تهرب حتى وهي حافية القدمين.
عودة إلى آية التي تقول: “لسنا معتادين هذه الحياة، نحن نعاني العذاب بسبب القصف وآلام الفقد، وجاءت الأمراض الجلدية لتهلك أبداننا وأبدان أطفالنا، فش نظافة ولا أدوات تنظيف”.
بالكثير من الحرج، تحدثت آية عن فقدان الفوط الصحية النسائية من السوق، وإن توفرت تكون بسعرٍ مرتفع، حتى أدوات النظافة الشخصية الشامبو وسائل غسيل الجلي والملابس، تم فقدانها من السوق، إضافة إلى المعاناة بسبب الأماكن المزدحمة والحمامات المختلطة في المخيم.
كان خليل زوج آية يعمل سائق (دليفري) قبل الحرب، وانقطع عن عمله في الحرب، فأصبح بلا عمل، ولا يوجد لديه مصدر دخل لشراء مستلزمات أسرته.
تتابع آية: “هناك معاناة بسبب الأماكن المزدحمة والحمامات المختلطة داخل المخيم، كان أصلًا أرض مقابر وغير صالح للعيش الآدمي، لكن لا يوجد أماكن نستطيع العيش فيها بأمان، حيث كثرة أماكن الإخلاء جعلتهم يخضعون لهذا المكان الفارغ الوحيد”.
تتدخل أم محمد بالقول إنها تفتقد لجميع مقومات الحياة الأساسية للنظافة، تذهب من نقطة طبية إلى أخرى، لكن العلاج غير متوفرة، تقول: (هيني بلفلف على المراكز الطبية عشان ألاقي علاج للمرض الجلدي اللي مش عارفة شو هو)، الحبوب انتشرت في كامل جسمها، ولا تستطيع النوم بسببها “الحكّة مش راضية توقّف”، والصرف الصحي رائحته كريهة ولا يوجد مصارف، فاضطرت العائلة لعمل حفرة لتصريف مياه الحمامات.
وضع المخيم كارثي كما تصفه أم محمد، تقيم مع (25) فردًا داخل خيمتها مع أبنائها وأحفادها، عدا ابنها محمد الذي قرر البقاء مع أهل زوجته في غزة، حيث يعاني من الجوع والتعب بسبب قلة الطعام.
نورهان (23 عامًا)، ابنة أم محمد، متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، زياد (8) سنوات، محمد (3) سنوات، ورتيل (عام واحد)، تقيم مع والدتها في ذات الخيمة.
تقول نورهان: “نزحنا من بيتنا في منطقة الصفطاوي غرب غزة عدة مرات مع أهل زوجي إلى مواصي القرارة التي اقتحمتها آليات الاحتلال بشكل مفاجئ، فتركنا الخيم وهربنا إلى هنا للنجاة بأرواحنا، شفنا الدبابات فوق الخيم شردنا، وصلت دير البلح أنا وزوجي عند إمي وإخوتي”.
تتابع: “الطعام الذي نعدّه بسيط جدًا، لا يتضمن اللحوم، نعتمد على المعلبات والتكيات لعدم توفر المال، وأحيانًا يذهب زوجي للاصطفاف في طوابير المياه المجانية”.
تكمل:”هناك معاناة شديدة للنساء والأطفال بسبب التلوث ومياه المجاري، أصاب أطفالي مرض جلدي، أول مرة أشوف هيك اشي شبه الجرب او الجدري، أنظفهم يوميًا بالمياه فقط في ظل عدم وجود أدوات تنظيف”.
ويخالف ما تعانيه عائلة أم محمد بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي تحظر التهجير القسري لهم، كما تحظر في مادتها (3) الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وخاصة القتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية، وتنص مادتها (56) على تطبيق تدابير وقائية لمكافحة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة.
تتدخل أم محمد بالقول: “معاناة النساء كبيرة، لأن مطلوب منها اتخاذ قرار النزوح فوق رعبها وقلقها المستمر، هي مسؤولة عن كل أفراد العائلة، ولا تستطيع التنظيف والتعقيم في ظل عدم توفر الأدوات الصحية الأساسية للنظافة، خاصة وأن المكان أرض تحيطها مقابر، حيث الحشرات لا تفارق المكان وأصاب أبنائي وأحفادي أمراض جلدية ظهرت على بشرتهم لأول مرة”.
تبذل أم محمد قصارى جهدها لتنظيف الأواني واستخدام بدائل مثل بَشْر الصابون بديل لسائل الجلي، كما تعاني النساء من فقدان الخصوصية في مراكز النزوح بسبب الاكتظاظ الشديد مما يحول دون قدرة النساء على استخدام دورات المياه، كما تسبب إغلاق المعابر في عدم دخول الفوط الصحية للنساء، ما يسبب لهن الأمراض، تقول أم محمد: (احتياجات المرأة كلها معدومة).