نجت من مجزرةِ النصيرات تقرحاتٌ نهشت جلدها… أم فايق:”زي المقبرة الجماعية مع إنّا أحياء”
نجت من مجزرةِ النصيرات
تقرحاتٌ نهشت جلدها… أم فايق:”زي المقبرة الجماعية مع إنّا أحياء”
النصيرات _ سالي الغوطي
(هاي مش حرب، هاي يوم القيامة)، بهذهِ الكلمات الثقيلة، تختصرُ السبعينية أم فايق نصر تفاصيل حكاية نزوحِها والعيش داخل خيمةٍ قماشيةٍ، في أحد مخيماتِ الإيواء، على أرض مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بعد أن أرغمتهم الحرب على ترك منازلهم!
قبل شنّ الاحتلال الإسرائيلي الحرب على قطاع غزة، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، كانت السبعينية رويدا نصر، التي لا تستطيع السير بسبب كبر سنها، تسكن حي النصر غرب مدينة غزة، هي أمٌ لثمانية أبناء (5 ذكور-3 إناث)، بينهم ابنها سامي (40 عامًا)، مصابٌ بمتلازمة داون. كانت تعيش داخل بيتٍ تملؤه ذكريات مع زوجها الذي توفّي منذ عشرين عامًا.
تقول الحاجة أم فايق: “كنا زي هالأيام نستنى المطر عشان نقطف الزتون هلقيت بدناش مطر، فقد أصبح المطر ضيفًا ثقيلًا، بعد أن فُرض علينا الحياة داخل خيمة تُمسكها الحبال أكثر من الخشب، تسقط عند قدوم أول رياح بسيطة، وتغرق مع سقوط رشّة من المطر”.
تتابعُ وتجاعيد وجهها ترسمُ رحلةَ الألمِ والقهر: “أعيشُ مع عشرةِ أشخاصٍ من عائلتي داخل خيمة مهترئة، مساحتها أربعة أمتارٍ فقط، بالكاد تكفي الفراش والأدوات التي حصلنا عليها من أهل الخير، هي زي المقبرة الجماعية مع إنّا أحياء”.
تتحسر السبعينية على أيامٍ مضت، كانت تعيشُها براحةِ بالٍ وسعادة وسط عائلتها قبل أن ترغمُها الحرب على ترك منزلها بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، والبدء برحلةِ نزوحٍ ومعاناة وتراكمٍ للديون.
نهلة: اطلعوا بدهم يقصفوا البناية
يقطعها صوت ابنتها نهلة (41 عامًا)، خرّيجة تعليمٍ أساسي، التي كرّست حياتها من أجل أمها ذات الإعاقة، وشقيقها المصاب بمتلازمة داون، تقول: “كنّا أول يوم في الحرب نجلس في صالون البيت، حين جاء أحد إخوتي نازحًا من بيته الذي دمّره الاحتلال، بعد دقائق سمعنا صوت صراخٍ في كل مكان والناس بحكوا اطلعوا بدهم يقصفوا البناية، بدأ الجميع بالهرب”.
تتابع والدموع تغرق عيناها: “عدتُ إلى البيت وأمسكتُ بمحفظةِ الأوراق الرسمية، تذكّرت أخي سامي الذي يرفض الخروج، متمسّكًا بالكنبة، بدأت بالصراخ وطلبتُ المساعدة، جاء أحد الجيران وأخي الكبير وحملاه خارجًا، ما إن وصلنا إلى حافةِ الطريق حتى سمعنا صوت وقوع بيتنا، ومن شدّة الخوف لم نلتفت خلفنا”.
بالدموع تروي نهلة كيف هربت العائلة صوب بيت شقيقهم في منطقة الكرامة شمال غرب مدينة غزة، وسرعان ما بدأت الأحزمة النارية بالتهام كلِ شيء، وتشتت الجميعُ مرةً أخرى، تكمل: “وسط النيران لم يتوقّف سامي عن الصراخ مع كل صاروخٍ، ممزوجًا ببكاء ابن أخي الرضيع الذي نسيه والداه معنا”.
نهلة: حاولنا كتم مشاعرنا لكن سامي ما قدر لأنه ما بيعرف شو كل هدا
يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، توجّهت العائلة إلى مستشفى الشفاء، ومكثت شهرًا، يفترشون الأرض ببعض الكراتين الممزقة، تتابع: “شاهدنا الدم والأشلاء وصراخ الأحباب في كلِ مكان، حاولنا كتم مشاعرنا لكن سامي ما قدر لأنه ما بيعرف شو كل هدا”.
سامي: لا صاروخ… سامي خاف صاروخ كلب”
“لا صاروخ… سامي خاف صاروخ كلب”، بهذه الكلمات قطع سامي الحوار معبّرًا عن خوفه عند سماعِه صوتُ صاروخٍ ونحن داخل الخيمة، خرجنا لنجد أعمدة الدخان قريبة من المكان، عدنا للخيمة مثقلين، ننتظر دورنا، وبقي سامي وحده خارجها، يردد بعض الكلمات التى بالكاد تستطيع فهمها.
بتاريخ 27 مايو/أيار 2024م، أعلنت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أنّ الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة يعيشون في حالة من الكرب الشديد، ويتوقّعون أن يكونوا أول أو لربما ثاني من يُقتل بسبب محدودية فرص الفرار أو المشاركة في عمليات الإخلاء نتيجة حالتهم الصحية، وعدم توفر أي سبل للنجاة.
وتنص المادة (11) من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على ضرورة أن تتعهد الدول الأطراف بمسئولياتها الواردة في القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، باتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في أماكن تتسم بالخطورة.
أم فايق: شعره شاب… ووجهه أَسود
“شعره شاب… ووجهه أَسود”، بهذه الكلمات تنظر الحاجة رويدا إلى ابنها سامي وتصفه: “يعاني سامي منذ بدء الحرب من نوبات سكر متتالية، منعه الأطباء من الخروج من المستشفى، وأصبح على عينه مياه بيضاء بسبب انخفاض السكر، وكون حياتنا كلها نزوح لم نستطيع تركه في المستشفى”.
تقاطعها نهلة مرة أخرى وتضيف: “طوال اليوم لا نتوقف عن الوقوف في طوابير الماء، للغسيل بسبب تبول سامي باستمرار لعدم توافر الحفاضات له ولأمي، فهم لا يستطيعون التحرك، لاسيما أنه لا يوجد دورات مياه عامة في المخيم، نسير مسافة طويلة للوصول إلى المدرسة المجاورة لقضاء حاجتنا”.
ارتفعت نبرة صوتها كأنها تريد أن تصرخ في وجه العالم، وهي تكمل: “نشرب مياهًا ملوثة، البعض منا مصاب باليرقان، نحتاج إلى دخول الحمام في أغلب الأوقات، لا نستطيع انتظار حارس المدرسة لفتح الأبواب في الصباح الباكر، فنقوم بطرق أبوابها من شدة الوجع”.
الجميع يحاول أن يتحدث ويروي ما حدث معه، لا يرغبون في نسيان مشهد من مشاهد القهر والألم، فقد أصبح كل شيء محفورٌ بالذاكرة كأنه كابوس مزمن، لا يمكن الاستيقاظ منه.
أم فايق: أصابعي مثل قطف العنب
(أصابعي مثل قطف العنب)، هكذا تصف المسنّة أم فايق ما حدث بأصابع قدمها عند نزوحها مجددًا، تكمل: “جاء السبت الأسود، في مخيم النصيرات، وهرب الجميع كأنه يوم الحشر، ذلك الكرسي المتحرك المهترئ لم يعد قادرًا على حملي، فأصبحت أدعس على قدمي كي يتحرك الكرسي دون توقف، فالقصف في كل مكان، حتى أوقعني الناس وهم يهربون إلى المجهول، وبعد ساعات من التعب وصلنا إلى دير البلح سيرًا على الأقدام، لا أقوي على تحريك أصابع قدمي”.
وكانت قوات الاحتلال ارتكبت مجزرةً في مخيم النصيرات يوم 8 يونيو/حزيران 2024م، راح ضحيتها أكثر من 200 مواطن، بينهم أطفال ونساء، فيما عُرف باسم مجزرة السبت الأسود.
وينص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3318)، وكذلك قرار مجلس الأمن الدولي (1325) على توفير حماية خاصة للنساء والأطفال وقت النزاع.
أم فايق: رجعنا للخيمة الضيقة والحياة الأضيق
تتابع أم فايق: “بعد ما تجمّعت مع عائلتي في مخيم النصيرات، تشتت مرة تانية، أنا وابني في دير البلح، وبناتي في المدرسة المجاورة، ونهلة وسامي في الزاويدة، كانت ساعات ثقيلة تشبه يوم الحشر، انتهت، بعدها رجعنا للخيمة الضيقة والحياة الأضيق”.
تضرب الحاجة كفًا بكفٍ وهي تتحدث جازمةً إن العالم لا يهتم بنا، فحتى الدواب تدوسنا، حدث هذا حين كانت نائمة على سريرٍ صنعه أبناؤها من لوحٍ خشبي، مسنودٍ بكرسي، فاصطدمت بها دابة بجانب الخيمة وداست جسدها الضعيف وكأنها لا شيء كما تصف.
تلتقط منها نهلة الحوار وتتساءل: “هل يستطيع العالم أن يعيش ليومٍ واحد داخل خيمة تسودها رائحة العفن لمجرد سقوط بعض قطرات من المطر، الذباب في كل مكان لا يغادرنا، لا سيما البعوض، زائر الليل الذي يلتهم أجسادنا، كيف سيكون الشتاء؟”.
تتابع: “كنا في رفح نازحون بمدرسة في حي الجنينة شرق المدينة منذ بداية ديسمبر/كان الأول 2023م، إلى أن جاء أمر جيش الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء رفح في 6 مايو/أيار 2024م، لقد كان الحال أهون”.
تقول نهلة وهي تنظر إلى خيمتها المكتظة بالأشياء، إنها طلبت المساعدة كثيرًا، دون جدوى، وحدها تتحمل مسؤولية سامي، وأمها التي أصبحت التقرّحات تكسو جلدها بسبب الحر الشديد داخل الخيمة، والمياه الملوثة، مع عدم وجود أدوية ولا منظفات، وحتى المياه المعدنية والمستلزمات الصحية لا تستطيع توفيرها.
سامي: بدي مراجيح … بدي كباب
(بدي مراجيح… بدي كباب)، صمت الجميع وبقيت كلمات سامي تترد في زوايا الخيمة، يلعب في طعامه دون أن يأكل، تارة يضعه في كيس صغير، وتارة ينقله في طبقٍ أمامه، والعرق يكسو ملابسه، تقول نهلة، “منذ دخوله مستشفى شهداء الأقصى في 20 أغسطس/سبتمبر 2024م، وهو يرفض تناول الطعام، فقط يطلب ما كان يأكله في بيتنا قبل الحرب”.
تختم أم فايق: “لا نريد مساعدات فنحن لا نراها، نريد السلام، ونعيش بأمان نأكل ونشرب وننام، والعودة إلى بيوتنا، وحياتنا القديمة دون حروب”.