(ديما) و (نور) تتحديان النزوح بمشروع وفي القلب صورة لكتاب وقلم
(ديما) و (نور) تتحديان النزوح بمشروع وفي القلب صورة لكتاب وقلم
دير البلح- خديجة مطر:
وسط زحام السوق وضجيجه، تقف الشقيقتان ديما ونور الصادق خلف طاولتهنّ الخشبية الصغيرة، يعرضن ما أبدعته أناملهنّ الصغيرة من اكسسواراتٍ يدوية، لكن ابتسامتهن العريضة في وجهِ من يبدون الإعجاب بمنتجاتهن، تخفي خلفها؛ وجع الحرمان من مقاعد الدراسة، ومعاناة النزوح!
في تفاصيل الحكاية، فقد نزحت الشقيقتان ديما (19 عامًا)، ونور (17 عامًا) الصادق مع عائلتيهما منذ بدء الحرب الإسرائيلية ثلاثُ مرات، حتى استقرّ بهنّ الحال في محافظة دير البلح وسط القطاع، داخل مخزن يفتقد لكل مقوّمات الحياة الإنسانية، فيه تعيشان مع عائلتهما، وفيه تمارسان مهنتهن في متجر أطلقن عليه (فيونكة).
وكان جيشُ الاحتلال الإسرائيلي، أعلن يوم (7) أكتوبر الحربَ على قطاع غزة، وباشر بقصف المباني فوقَ رؤوسِ ساكنيها، ليجبر يوم (13) أكتوبر، أكثر من مليون ونصف مواطنٍ على النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، في مخالفةٍ لاتفاقية جنيفِ الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين.
يوم (13) نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، قررت عائلة ديما ونور، المكوّنة من ثمانية أفراد النزوح إلى جنوب القطاع سيرًا على الأقدام من منزلهم في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، وعلى مدارِ ستِ ساعات، كانت شاهدة على دمار لحق بالمباني والطرقات، بينما تحوم طائرات الكوادر كابتر فوق رؤوس الناس.
أثناء مرورهم على حاجز الاحتلال العسكري شرق مدينة غزة، تفنن جنود الاحتلال بضرب المواطنين الفلسطينيين والتنكيل بهم، وشتمِهم بألفاظ بذيئة والاعتقال الوحشي لبعض المارّة، حالف عائلة ديما ونور الحظّ بالنجاة وسط طريقٍ مليء بالجثث المتحللة، وعلى ظهر دابّة، انتقلوا إلى جنوب قطاع غزة.
ديما: وجع النزوح أرهق أرواحنا
تقول ديما: “لم يحترم جيش الاحتلال صغيرًا ولا كبيرًا، خلال الطريق التي قالوا إنها ممرٌ آمن، فقدنا كل ما يُطلق عليه حقوق إنسان، احتاجت أمي بعدها شهرًا وهي تحاول مداواة أوجاعنا، العبء على أمي فوق الخيال، مَرِض إخوتي الأطفال الثلاثة وزادت صحة جدّي سوءًا، وتفاقمت الأعباء بسبب ارتفاع الأسعار وانعدام العلاج وانقطاع الكهرباء والمياه، وجع النزوح أرهق أرواحنا”.
تضيف: “منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، عانت عائلتي أوضاعًا صعبة، مكثنا في حاصل (مخزن) لأكثر من شهرين، توفي جدّي في المخزن بسبب فقدان مقومات الحياة الكريمة، وبعده بثلاثة أيام توفّت جدّتي التي بقيت شمال قطاع غزة بسكتة قلبية حزنًا على جدّي، ولم نلقِ عليها ولو نظرة وداع”.
ديما: هالحرب لا رحمت كبير ولا صغير
بحرقةٍ تكمل: “كان المخزن مغطى بقطعٍ من الإسبست التالف والمدمّر نتيجة القصف في كل مكان، تساقطت الأمطار ومعها قطع من الاسبست فوق رؤوسنا، لم ندرك حينها هل سننجو من صاروخٍ مرّ أعلى رؤوسنا؟ أم سنمرض ونموت من المرض؟ هل سيسقط أحد الحجارة علينا ونفقد أرواحنا مثلما فقدنا جدّي؟ هالحرب لا رحمت كبير ولا صغير”.
ويخالف ما تعرّضت له عائلة ديما نصوص اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، خاصة المادة (49) التي تحظر النقل الجبري الفردي أو الجماعي للمدنيين.
تكمل ديما: “كان يفترض أن أنهي عامي الجامعي الأول، شعرتُ بشغفٍ لا يوصف عندما سجّلت بتخصص الإعلام واللغة الإنجليزية، مرّ شهرٌ على التحاقي بالجامعة، تبدّل كل شيء فجأة، وفقدتُ حقي باستكمال دراستي، دمر الاحتلالُ مستقبلي وجامعتي وفقدتُ أساتذتي، فقدت كتبي ومكتبتي تحت أنقاض منزلي الذي قصفه جيش الاحتلال”.
ديما: كيف ممكن أكمل تعليمي والنار فوق راسي صبح ومسا
كانت ديما تتحدث بينما تنشغل بتشكيل عقدٍ من الخرز، وتجزم إن ظروف النزوح غير ملائمة لاستكمال الدراسة، مئات العقبات والقصف فوق رؤوس الطلبة، مردفة: “حياتُنا عبارة عن طوابير من المعاناة، كيف ممكن أكمل تعليمي والنار فوق راسي صبح ومسا”.
كانت الشقيقتان ديما ونور على مدار السنوات الماضية تعملان على تطوير قدراتهن بالالتحاق بدورات تطوير لمهاراتهن في اللغة الإنجليزية والبرامج الالكترونية لتحول الحرب وانقطاع الانترنت دون مواصلة تدريباتهن.
ديما: بنسابق الزمن عشان ننجو وإذا نجينا جسديًا فنفسيتنا مدمرة
تسرح قليلًا وهي تكمل: “أصعب ما في الحرب الفَقد والنزوح، لا مفرّ لنا في كثير من الأحيان سوى النجاة بأرواحنا، لا مجال للخصوصية ولا لنرى أو نودّع أحبابنا، رائحة الموت في كل مكان، بنسابق الزمن عشان ننجو وإذا نجينا جسديًا فنفسيتنا مدمرة”.
كانت بداية مشروع متجر “فيونكة” منذ شهر فبراير/شباط 2024م، عندما شعرت شقيقة ديما بالوحدة والملل، فبدأت قصة ديما ونور بصنع المشغولات اليدوية المصنوعة من الخرز كالأساور والسبح، وبيعها بدايةً للأقارب ومعارفهن من النازحين، ثم داخل أحد الأسواق الشعبية المجاورة لمكان نزوحهن الثالث.
تقول ديما: “كنتُ أشعر أنا الأخرى بالفراغ والوحدة ووضعي النفسي مرهق، لا إنترنت ولا دراسة ولا دوراتٍ تطويرية، بحثتُ عن أي بديل لتخفيف الضغط النفسي، فاقترح عليّ والدي ووالدتي مشاركة شقيقتي في بيع الاكسسوارات، فخصصنا مكانًا لنا في السوق”.
والدا ديما ونور هما الداعمان لهنّ على مستوى الدراسة وتطوير الذات، إضافة إلى تعزيز ثقتهن بأنفسهن بضرورة تحدّي الواقع الصعب خلال الحرب بافتتاح مشروعٍ صغير.
تكمل: “بصعوبة أحصل على المواد الخام، يبحث والدي عنها في المحافظات لنهارٍ كامل، إغلاق المعابر وفرض القيود على المنتجات أكبر العقبات التي تصعّب عملنا وتؤثر على إجمالي الربح”.
أما شقيقتها نور (17 عامًا)، والتي تشاركها المشروع فتقول: “كان من المفترض أن أستعدّ للمرحلة الثانوية وتحديد مصيري هل سألتحق بالقسم الأدبي أو العلمي، فقدت منذ بدء الحرب حقي المكفول بالقوانين الدولية باستكمال تعليمي”.
وتنص المادة (50) من اتفاقية جنيف الرابعة على أن تكفل دولة الاحتلال بالاستعانة بالسلطات المحلية والوطنية حُسن تشغيل المنشآت المخصصة لرعاية الأطفال وتعليمهم.
تنهي نور بيع قطعة من الخرز لشابة ثم تستدير وتكمل: “كان علينا تحدّي الظروف الصعبة التي نمرّ بها، وتوفيرُ مصروفٍ شخصي والتخفيف من حدة الأعباء الواقعة على عائلتي في ظل الغلاء الفاحش، والتخفيف عن نفسيتنا المدمرة بسبب وفاة جدي وجدتي”.
تخبرنا نور إنها وشقيقتها تتجهزان لطلبات الزبائن منذ الفجر، ويستمر عملهن حتى المساء وسط سوق دير البلح، تنتجان خلالها العديد من الحلي والسبح، هناك إقبال جيد من الناس خاصة أن معظم المنتجات تحمل ألوان علم فلسطين.
تتنهّد بعمق وهي تروي كيف تجاهد من أجل مواصلة حياتها تحت وطأة أعباء النزوح، في ظل غياب أبسط الحقوق الأساسية، من مياه وغذاء وغاز ومسكن قابل للحياة.
نور: الحرب هدمت النسيج الاجتماعي لعائلتي اللي توزعت بين الشمال والجنوب
عن حياة النزوح تضيف: “كنا ننعمُ ببيت آمن جميل، يضم ذكريات سعيدة، لم يكن ينقصنا شيء في بيتنا، الآن نفتقد لكل شيء، الأمان، الخصوصية، الأثاث، المستلزمات الأساسية، نتشارك حاليًا برفقة أقاربي بيتًا وسط دير البلح يضم رغم ضيقه (15) فردًا”.
تكمل: “انقلبت حياتنا بعد الحرب، الأماكن تغيرت، الناس اختلفوا، الحرب هدمت النسيج الاجتماعي لعائلتي اللي توزعت بين الشمال والجنوب، حرمنا منذ عام من أعمامي وخالاتي وصديقاتي”.
وتحلم الشقيقتان ديما ونور بتطوير عملهن ومحاولة الترويج لمشروعهن، لكن تحول انقطاع الاتصالات والحصار والحرب دون ذلك، ناهيك عن عدم إمكانية التنقل بين شمال قطاع غزة وجنوبه.
في ختام حديثهن تتمنى الشقيقتان انتهاء الحرب وعودة الحياة إلى طبيعتها، والرجوع لمنزلهن المدمر جزئيًا ولم شمل العائلة شمال قطاع غزة مجددًا.