وجع محفور في ذاكرة أم سليمان… معالي شهيدة
الزوايدة/ بقلم: عزة أبو زايد:
“وهل مرور الأيام كافٍ لمداواة الجرح، جفّ الدمع يا ابنتي والذكريات قاتلة، ألم الفقدان باقٍ معي حتى آخر يوم في عمري”، كلمات قالتها السيدة أم سليمان زايد وهي تحتضن صورة ابنتها “معالي” ثم تضعها على منضدة صغيرة بجوار سريرها وتعود لتروي الحكاية.
“استشهدت ابنتي “معالي” خلال حرب العام 2014 وكان عمرها (24 عامًا)، ارتقت في عزّ شبابها وتركت خلفها طفلًا كان عمره سنة واحدة، تربى يتيم الأم”، تقول الحاجة “أم سليمان”.
استشهدت الشابة “معالي” وهي من قرية الزوايدة وسط قطاع غزة، بانفجار صاروخ أطلقته طائرات الجيش الإسرائيلي الحربية على منزلها أثناء الحرب، خلّف حينها (2300) شهيدة وشهيدًا، بينهم (489) امرأة و(578) طفلًا، على مدى 51 يومًا وفقًا لتوثيق وزارة الصحة الفلسطينية، تم قصف منازل المواطنين خلالها بالطائرات الحربية.
انهمرت الدموع من عيني السيدة التي بلغت (65 عامًا)، نال كِبر السن من ملامحها بشكل واضح بعد استشهاد ابنتها وباتت لا تقوى على الحركة بعد أن أثّر الحزن على صحتها.
تقول “أم سليمان”: “كانت بنتي معالي متزوجة وعندها طفل وتسكن قريبة مني واعتادت زيارتي في البيت يوميًا، فهي طالبة جامعية تخصص لغة انجليزية وكانت تترك ابنها معي وتذهب للجامعة وبعد عودتها تقضي بعض الوقت معي”.
كانت علاقة “معالي” بأمها مميزة جدًا، فقد ظلّت على تواصل يومي مع أمها بعد زواجها وإنجابها، مخزن أسرارها وسبب ضحكاتها، فهي خفيفة الظلّ مرحة بسيطة.
تمسح الأم دموعها وتستذكر ذلك اليوم الذي استشهدت فيه “معالي”: “خلال الحرب اتصلت بي وأخبرتني أنها ستأتي لزيارتي هي وزوجها ومعها طفلها “خالد”، أثناء انتظاري لهم سمِعت صوت انفجار ضخم في المنطقة، انتفضت وانقبض قلبي”.
وكأن الصاروخ أصاب قلب الأم، خوف شديد وغير معتاد سيطر عليها رغم أن الرعب يحوم مع الطائرة الحربية في كل مكان، لكن بدا وكأن الأمر مختلف هذه المرة.
تضيف: “خرج أبنائي بسرعة نحو صوت القصف مثلما اعتاد الناس كلما استهدف الاحتلال مكان يسارعوا بالمساعدة، لكن هذه المرة كان بيت أختهم وهي تحت الركام، زوجها يحمل صغيرها ويقف مصدومًا أمام بيتهم المقصوف”.
أثناء تأهب “معالي” لزيارة أمها، كان زوجها يحمل طفلها ويقف خارج البيت وهي على وشك الخروج، دقيقة واحدة كانت الفارق بين نجاة طفلها وزوجها من القصف الذي استهدف منزلهم، وبقائها هي تحت الركام.
تكمل: “بنتي “معالي” البارة الودودة، مرضيّة الوالدين، المحبة لزوجها، قُتلت دون ذنب، الحرب كابوس لنا ولا نعرف لماذا نعيش كل هذا الرعب”.
مرّت السنوات والوجع يزداد في قلب الأم المكلومة، تشتكي مرض الضغط والسكر بسبب الحزن وتجلس وحيدة كل يوم في حديقة منزلهم، ذات المكان الذي كانت تفضّله ابنتها وتستأنس أحيانًا بطفلها “خالد”، تسقي شجرة التين التي كانت تحبها، وتتصدق بثمارها عن روح “معالي”.
ترتجف يد الأم وهي تتابع: “صورتها في خيالي ما فارقتني ولا لحظة، حتى ابنها يذكرني فيها بكل التفاصيل، أصبح الآن 9 سنوات، يشببها كثيرًا، ويتصرف مثلها رغم أنه لم يعيها، لكن دائما عندي، يزورني في البيت يوميًا، أحضنه وأقبّله كأنني أحضن ابنتي”.
ككل الأمهات، منذ أنجبت “معالي” طفلها كانت كلما داعبته تقول “يا رب يا ماما أشوفك دكتور”، لكن الاحتلال لم يحرمها فقط رؤية أمنيتها تتحقق، بل حرمها عمرها كله، فهي حتى لم تفرح بالاحتفال بعيد ميلاده، لكن ظروف الحرب منعته.
تجهّزت “معالي” للاحتفال بأول عيد ميلاد لطفلها قبل الحرب وقبل يوم الميلاد بشهرين، اشترت الشموع وحبال الزينة وكلها ما زالت محفوظة في خزانة أمها، لم تقوى السيدة على التخلص منها رغم مرور 8 سنوات.
تكمل “أم سليمان”: “أنهت في ذلك العام آخر امتحانات لها وكانت تنتظر التخرّج بفارغ الصبر كي تعمل في مجالها الذي تحبه، أصعب شيء عندما يزورني أبنائي وبناتي في شهر رمضان أو في الأعياد، أفتقدها من بينهم ولا أجدها، بينوجع قلبي عليها”.
ولم تنسَ السيدة تحميل الاحتلال الاسرائيلي مسؤولية قتل النساء الفلسطينيات داخل بيوتهن، وهي ما زالت تطالب المؤسسات الحقوقية بمواصلة العمل لملاحقة المتسببين بحرمانها من ابنتها قانونيًا، أما ما تتمسك به الجدة الآن فهو الطفل “خالد”، لمسة الأمل الأخيرة الذي يخفف أوجاع جدّته المكلومة بفقدان ابنتها.
ويعتبر قصف المدنيين خلال الاعمال العسكرية جريمة دولية بحسب نصوص اتفاقيات جنيف للعام 1949 وفقاً للقانون الدولي الإنساني الذي يعتبر قتل المدنيين انتهاكاً للمواثيق والعهود الدولية بما فيها مواثيق الحقوق الإنسانية التي تكفل حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”.