أمومة محاصرة باكتئابٍ وعنف.. مريم نموذجًا

قطاع غزة / بقلم: أصالة كلّاب

“أصبح عُمر طفلتي أربعة شهور، لم أشعر بها، حياتي تحوّلت إلى جحيم، كنت لا أطيق صوت بكائها، أهملها بالأيام، أرضعها بصعوبة، أنفجر بالبكاء دومًا دون سبب، وسط لومٍ وتوبيخٍ من زوجي ووالدته، ما جعل حالتي جحيمًا”.

بهذه الكلمات وصفت الشابة مريم (اسم مستعار) حالتها عندما أصيبت باكتئاب ما بعد الولادة، عقب أول تجربة أمومةٍ تمرّ بها والأسوأ هو جهل المحيطين بها وهم الأقرب لحالتها، الذين قاموا بتعنيفها مما زاد وضعها سوءًا وفاقم حالتها الصحية والنفسية.

تروي الشابة مريم لمركز الإعلام المجتمعي: “الولادة، أقسى تجربة عشتها في حياتي، أنا أحب الأطفال جدًا، حلمي الكبير أن أكون أمًّا وعندما تلقّيت خبر حملي بعد زواجي بفترة شعرت أن الكون أضيق من أن يتسع لسعادتي”.

اجتاحت السعادة حياة مريم عندما علمت أنها حامل، لدرجة أنها كانت تتعامل مع آلام الحمل بإيجابية ورغم الشعور بالغثيان والدوار في الشهور الأولى ثم التعب والإرهاق الشديدين اللذين رافقا حملها، لكنها كانت شديدة التفاؤل، تمضي وقتها مع زوجها في رسم صورة الطفلة المستقبلية التي ستكون نورًا للبيت كله، كيف سيكون شكلها؟ حتمًا أجمل طفلة في الكون، ماذا ستحب؟، ماذا ستكره؟، ماذا نشتري لها؟ وهكذا مضت فترة الحمل، لكن لم تجرِ الأمور مثلما تمنّت.

تشرح مريم: “عند الولادة تطاير كل هذا الحلم كأنه رماد ذروه أمام عيناي، تعرّضت أثناء الولادة للتعنيف اللفظي والجسدي من الممرضات في المستشفى حيث ضربتني الممرضة ووجهت لي شتائم بشعة، لأنني قاومت تعليماتهم، غرفة الولادة كانت تضم أكثر من حالة ولادة في نفس الوقت وأنا شعرت بالخجل من الولادة أمامهم، وما حدث قاسٍ على قلبي، هذا المشهد سلبني كل ما هو جميل في مشاعري”.

مريم التي كانت قبل الولادة تتلهف لاحتضان الطفلة، حدث معها ما لم تتوقعه، إذ لم تحضن الطفلة ولم تقبّلها، بل نظرت إليها بعيون جاحظة جامدة.

تنظر مريم إلى طفلتها وهي تشعر بالذنب لكل ما حدث، تتابع حديثها: “كانت حالتي النفسية سيئة جدًا ودخلت في اكتئابٍ شديد، كان لدي شعور عام بالتعب والإرهاق، لا أطيق سماع صوت الطفلة، ولا أرضعها إلا بصعوبة ومزاجي كان متقلّبًا بشكلٍ كبير وكنت أدخل في نوبات بكاءٍ مستمرةٍ ومتلاحقةٍ ودون سبب، عانيت من صعوبةٍ في النوم وقلقٍ دائمٍ مع شعورٍ بالذنب تجاه طفلتي التي لا أعرف لماذا أعاملها هكذا”.

سوء الحالة الصحية والنفسية لمريم تبعه إصابتها بالقولون العصبي، وما زاد الطين بلّة هو حجم الخلافات العائلية التي ظهرت خاصة مع التعنيف الذي تعرّضت له من زوجها ووالدة زوجها.

توضّح: “والدة زوجي لم تتوقف عن إلقاء اللوم عليّ وتوبيخي واتهامي بأنني سأتسبب في قتل طفلتي، ونعتي بأنني أم فاشلة ولا أصلح أن أكون أمًّا وصولًا إلى التهديد بتطليقي، سرعان ما كنت أجهش بالبكاء ولسوء حظي تزوجت بعيدًا عن والدتي التي تسكن خارج الوطن وأعتقد لو كانت موجودة لهوّنت عليّ ولو قليلًا”.

زاد الأمر سوءًا عند تدخل زوجها الذي مارس التعنيف والتوبيخ معي باستمرار مع تكرار عبارته التي أصبحت تلازمه “أنت تدلعي، كل النساء بتحمل وتلد، لست وحدك من تمر بهذه التجربة، سئمت منك ومن تشاؤمك وتقصيرك تجاه طفلتنا”.

مع كل موجة لومٍ وتوبيخٍ يوجهها زوجها، تصبح مريم كأنها تغرق في محيطٍ واسعٍ وحدها، لا أحد يدري عنها، وكلما نظرت إلى الطفلة تصيبها نوبة من البكاء وتتساءل أين ذهبت مشاعرها الجميلة التي رافقتها خلال الحمل، تكمل: “أحزن كثيرًا على طفلتي التي حُرمت من حناني ومشاعري، وأحزن على حالتي”.

ذات يوم مرضت الطفلة واحتاجت إلى المبيت في المستشفى، لم تتوقف مريم عن جلد ذاتها وارهقتها مشاعر تأنيب الضمير بسبب تقصيرها بحق طفلتها، إلى جانب لوم جميع المحيطين بها وتحميلها مسؤولية مرض الطفلة.

تضيف: “صرخت والدة زوجي في وجهي بأنني السبب، لم أتحمل كل هذا الضغط، عدت إلى البيت ودخلت غرفتي  الكثير من الأفكار القاسية وعندها أمسكت بمشرط وجرحت يدي ثم توقفت عن البكاء”.

دخل زوجها الغرفة غاضبًا ليواصل موجة التوبيخ واللوم المعتادة وفوجئ بالدماء تسيل من يدها، حملها سريعًا إلى المستشفى لإنقاذها، فقد كانت توشك على الانتحار، حينها شعرت بخوفه الشديد عليها وبدأ بالشعور أن هناك شيء غير طبيعي.

تتابع: “لديه صديق يحمل شهادة في علم النفس، أخبره بما أعانيه، وهو بدوره حدّثه عن اكتئاب ما بعد الولادة، ويجب عدم التهاون مع الحالة كي لا تتدهور والأفضل استشارة طبيب نفسي، لا نملك تكاليف زيارات للطبيب النفسي، لكن زوجي تغيّرت معاملته تمامًا حين فهم حالتي وأصبح دائم الدعم لي وشرح المشكلة لوالدته التي تفهّمت الأمر بدورها”.

حصل زوج مريم على إجازة من عمله مدة أسبوعٍ كاملٍ جلس إلى جوارها وبدأ يستمع لها ويفهم مشاعرها وهو ما جعلها تتحسن تدريجيًا، لكن يبقى جهل الناس بالمشكلة سببًا كافيًا لمعاناة النساء وتوجيه العنف لهن، كما تؤكد مريم.

تختم: “اكتئاب ما بعد الولادة ليس رفاهية وتجاهله يدفع للانتحار أو لإيذاء النفس، خاصة إن ترافق مع عنفٍ من المحيطين، أصبت بالقولون العصبي بسببه وما زلت أعاني، لا تقللوا من شأن الصحة النفسية للنساء”.

تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى