قصة رهف التي حاربت السرطان وماتت وحيدة
هيا بشبش/ مركز الإعلام المجتمعي
“غصةٌ في القلب”، هكذا وصفت منال فقدان أختها الوحيدة رهف بعد صراع مع المرض دون أن تحظى بفرصة التواجد معها في أيامها الأخيرة، لا لشيء سوى لأن المريضة أنثى، هكذا كانت الحكاية وإليكم القصة من البداية.
تروي العشرينية منال قصة شقيقتها المتوفاة رهف، أسماء مستعارة: “أنا من مدينة غزة، تتكون أسرتي من ثلاثة أبناء ذكور وأنا ورهف إناث، تزوجت في عمر 18 عامًا وغادرت بيت عائلتي”.
جاهدت منال كي ترسم ابتسامة خفيفة على محيّاها وهي تقول: “تصغرني رهف بعامٍ واحد، كانت صديقتي وشقيقتي ورفيقة اللعب والجدّ، كانت خفيفة الظلّ يحبها الجميع، بعد زواجي بعامٍ واحد دخلت هي الجامعة الإسلامية تخصص محاسبة، وبدأت تنتقل من تفوق إلى آخر، وتخرجت بدرجة امتياز”.
تدفُق الدمع غطّى على لون عينيها العسليتين وهي تروي ذكرياتها مع شقيقتها التي رحلت مؤخرًا: “اشتكت رهف من بعض الأوجاع، ذهب بها أبي وأمي إلى الأطباء الذين طلبوا بعض التحاليل”، بعد رحلة بين أروقة المستشفيات ومراكز التحاليل حلّ الخبر النهائي كالصاعقة التي ضربت مسامع الجميع، رهف مصابة بالسرطان!
لم يخبر أحدٌ منال بشيء؛ لكن بعد عدة أيام فوجئت بشقيقتها تقول لها “سأرحل”، تكمل منال: “لم أفهم ما قصدت، ظننت أنها تمزح، سألتها إلى أي بلد تنوين الرحيل، أجابتني باكية حيث يقبع موتانا، إلى المقبرة”، وروت لها رهف ما حدث معها.
هنا رهف انضمت فعليًا إلى 14 ألف مريضة بالسرطان 53% من نساءً، في قطاع غزة الذي تحاصره سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ 15 عامًا وتمنع عنه الكثير من الأدوية بما فيها الخاصة بالسرطان.
تكمل منال: “سألتها ألا تبالغ فهناك الكثير ممن تعافوا، لكن والداي طلبا مني ألا أخبر أحدًا حتى صديقتها، وبرروا ذلك بخوفهم ألا يتقدم لخطبتها أحدٌ بعد شفائِها، وقالوا بلاش يقولوا معيوبة!”.
رغم أن هذا الطلب آلم منال بشدة، لكنها على الأقل شعرت ببعض الأمل بأن تشفى شقيقتها وتكمل حياتها، ورغم شعورها بقسوة هذا على رهف لكن الجميع انصاع للأمر.
انقطع الحديث عندما دخلت ابنة منال لتقديم القهوة، لكن سرعان ما عادت لتكمل: “رهف كانت قوتنا، ورغم السرطان الذي يسري في أحشائها لم تستسلم، تقدمت للعمل في عدة شركات، حصلت على وظيفة، ولم تخبر أحدًا بوجعها، كانت تتألم بصمت، هكذا يريد المجتمع، فالفتاة المريضة منقوصة من وجهة نظرهم”.
غصة الألم ظهرت في صوتها وهي تكمل: “كانت رهف تقول لي ألمي مضاعف لأني أمثل القوة أمام الجميع ولا أحد يراني من الداخل، أنا متعبة جدًا”، ومع بدء رحلة العلاج الكيماوي الذي بدأ يقتل خلاياها ويقضي على نضارة وجهها، أخفت شحوبها مع أوجاعها بمساحيق التجميل.
تضيف: “كان هذا السر ضغطًا هائلًا على أعصابها في وقت تحتاج فيه إلى الدعم، لكننا نعلم أن المجتمع قاسٍ على الفتيات، بعد رحلة علاج مؤلمة أعلن الطبيب شفائها، اتصلت بي وهي تكاد تزغرد من الفرحة، وقالت حينها إن بوسعها إكمال حياتها كأي فتاة، كانت ترغب بشدة في أن تتزوج وترتدي الفستان الأبيض وتنجب أطفالًا تدللهم كما تدلل أبنائي”.
فتحت منال هاتفها المحمول وعرضت صورة شقيقتها معقبة: “انظروا كم هي جميلة، انظروا إلى عينيها المليئتين بالحياة والحب والأمل”.
أغلقت الهاتف وتابعت: “تقدم لخطبتها الكثير من الشبان، لكن كانوا يغادروا ولا يرجعوا، علِمْت لاحقًا أن أبي كان يخبرهم بمرضها الذي شفيت منه دون إبلاغها بذلك خوفًا على مشاعرها”.
لكن جاءت اللحظة التي تقدم فيها لخطبتها زميل لها في الشركة، عندما أخبره والدها بالأمر ذهب ولم يعد، فاضطر والدها للادعاء أنه وأمها رفضوه لأنه غير مناسب، فقاطعتهما رهف ليومين كاملين لم تتناول خلالها الطعام، ففي رفضه كسر لقلبها وأملها المنشود بالزواج، وهنا تدهورت حالتها النفسية والصحية أيضًا.
عادت منال تنظر لصور أختها وهي تقول:” لا يعيب الذكور شيء، أما الفتاة فإن مرضت حلمها بالزواج والإنجاب ينعدم، مرضت فخفنا من المجتمع وتعافت ولم يستوعبنا أيضًا المجتمع، ما حدث كسر قلبها وتسبب في سوء حالتها النفسية وعاد لها المرض مرة أخرى، ولم يكن هناك أمل في الشفاء”.
سريعًا تدهورت الحالة الصحية لرهف، كان والدها يعولان مجددًا على إمكانية شفائها ولم يخبروا أحدًا، إلا أن السرطان كان ينتشر بسرعة النار، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة.
تقول منال: “لم أعلم بأمر مرضها الأخير رغم أنها قضت وقتًا على سرير المستشفى، ماتت ولم أودعها ولم أحظَ حتى بفرصة أن أكون إلى جوارها في أيامها الأخيرة”، ضغطت عيناها بقوة وتمتمت: “كل هذا من أجل المجتمع”.