رحلوا بحثا عن الحياة فاستقبلهم الموت في عرض البحر

محمد صيام – ضجروا بالواقع المهين الذي عاشوا فيه سنواتٍ تحت الحصار من جهة وآلة القمع الذاتي من جهة أخرى، لم يكونوا قادرين حتى على التعبير عن آلامهم ومشاعرهم، ظلّت أرواحهم حبيسة الكبتِ سنين طويلة، يعجنون الفقر بالبطالة كي يتنفسوا، ثم يصبرون أمام التناحر السياسي بين الحزبين الأكبرين؛ لكنَّهم ُ اختاروا مواجهة الموت !

لم تكن رواية كنفاني نصًا بلْ صارت واقعًا، إذا لم يكن في صحراء الكويت، كان في بحر الإسكندرية، حيث أعلن السفير الفلسطيني في القاهرة، غرق 17 فلسطينيًا من أصل 157 كانوا يركبون البحر هروبًا من ألم الواقع في غزة وفقدان الاتصال بالمئات من المهاجرين بينهم عائلات بأكملها، واكتفى الممثلون الرسميون جميعهم بتقديم واجب العزاء كمن يقتل القتيل ويمشي في جنازته، أيحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا ؟

**** دراسات عليا تهاجر !

لم يحالفه الحظ بالاتصال مع أهله قبل أن تنقطع أنفاسُه وتمتلئ أمعاؤه بالماء، وتغادر روحُه الدنيا بسلام، بعد أنْ هبطت في حربْ؛ لكنَّه على الأقل كانَ محظوظًا إذ لم يمت في غزة التي مات كثيرون فيها ولم يملكوا فرصة السفر مرة واحدة، يقول صديقُه محمد أبو ميري عبر الـ “فيسبوك” :”كان يقول إنَّ الموتَ في البحر أمامَ شواطئ أسبانيا أجمل بكثير من الموتِ في غزة، في مياه الصرف الصحي التي تغطي البحر أو مياه الشرب المالحة”.

وعن هجرته، يضيف أبو ميري :”في السنة الجامعية الثانية، قبل ست سنوات، اقترح عليّ والدي أن أعمل معه في الجزائر، كنتُ مترددًا وسافرت، وانتقلت إلى أوروبا التي يعتقد الكثير أنّها بلاد الأحلام؛ لكنَّ الحقيقة عكس ذلك” .

وعن فكرة العودة يجيب:” أعيش في ألمانيا ولا أفكر بالعودة إلا في حال تحسّنت واستقرت الأمور في غزة “.

لم يصدق أفراد عائلة “بربخ” أنَّ هذا الرقم الذي يتصل بهم يعود لابنهم “خميس” حتى إذا سمعوا صوتَه وأكدّ لهم أنه حي، علَت الزغاريد واحتفلوا، حدّثهم من شواطئ إيطاليا عن أصدقائه الذينَ غرقوا وعن الذين نجوا وتفرقوا في مالطا أو إيطاليا ومنهم لا زال يصارع الموج في عمق البحر.

فادي ، شاب تخرّج قبل عامين من كلية التمريض في الجامعة الإسلامية، ينتظر امتحان التوظيف الذي استعدَّ له أكثر من مرّة قبلَ أن تلغيه غزة تارة وأخرى رام الله تؤجله، يقول لـ”شباب 21″:”والله الواحد مَلْ من هالبلد، وهالحرب قضت على آخر الصبر(..) طوابير البطالة ولا إعادة الإعمار ” .

وحول نيّة الهجرة، يضيف:” لا يؤخرني عن الهجرة إلا التكلفة المالية، قريبًا ستكتمل معي 3 آلاف دولار، وأعرف طريقي”، مضيفا : كنت بصدد اعداد “بسطة” دخان على باب مستشفى الشفاء وأضع عليها شهاداتي الجامعية”.

“أسامة” بعد خمسِ سنواتٍ دراسية في كلية الهندسة في الجامعة الإسلامية أيضًا، لم يجد عملًا، قرّر أنْ يكملَ الماجستير ثم أعدَّ حقيبته للهجرة، يوضّح: إنَّنا نعيش مأساة بكل معانيها، مجتمعنا متهالك، قضيتنا ضاعت، ما الذي تبقى في غزة ؟”.

أما عمر أزرق، مهاجر سوري لم يكن يصدق أنَّه سيكون واحدًا بين 28 شخصًا فقط، نجوا من أصل 400 إلى 500 شخص كانوا على متن قاربٍ غرق قرب السواحل الإيطالية، يقول: “في أول لحظة بتركب السفينة، بتحس إنَّه حياتك خلصت، ومع أول لكمة على الوجه تشعر أنك غلطت بالهجرة لحتي تقعد في مساحة لا تتجاوز نصف رجلك”.

ويبين أنه بعدما تقطع مسافة بسيطة في البحر,تشعر أنَّه لم يعد شيء بهذه الدنيا غير البحر والسماء،ثم تنظر إلى الأطفال والنساء وتفكر فيما لو غرق القارب ماذا يمكن أن يحدث ؟ وفعلًا غرق القارب وكنت من القلة الناجية بعد ثلاثة أيام سباحة في البحر.

تسوقهم الأقدار من الحصار إلى البحار، لم يستسلموا لليأس؛ فيخشون أن تمضي سنينَ عمرهم نائمين لا يملكون شيئًا سوى أحلام النوم واليقظة، حتى إذا ابيضَّ شعرُه وخارت قواه دونَ بيتٍ مالٍ أو زوجة وعيالْ ! وجدَ الانتحار أقربْ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى