الاعتقال التعسفي في غزة..  أمهات في انتظار مصير أبنائهن المجهول

الاعتقال التعسفي في غزة..  أمهات في انتظار مصير أبنائهن المجهول

 

غزة- أماني شنينو

بعد 470 يومًا من الإبادة الجماعية، أُبرم أخيرًا اتفاق لوقف إطلاق النار يتضمن 3 مراحل؛ عاد النازحون إلى الشمال، وودّع المفجوعون أحبتهم الذين رحلوا، لكن من لا يزال له غائب يترقب بقلق، ومن له أسير في سجون الاحتلال ظل معلقًا بأمل، لعلّه يكون ممن يُفك قيدهم ويعود إلى أحضان ذويه في صفقة تبادل الأسرى.

لا تزال والدة الأسير م.م تعد الأيام والدقائق منذ اعتقال وحيدها بلا تهمة أو مبرر، لا سياسي ولا عسكري، عام وأسبوعان مضيا من الانتظار الطويل، ولا يزال القلق يسكن قلبها.

لحظة الاعتقال الصادمة

في مقابلة أجراها مركز الإعلام المجتمعي مع والدة الأسير م.م، روت بحسرة قصتها قائلة: “نزحتُ مع زوجي وابني الوحيد من شمال غزة إلى مقر الهلال الأحمر جنوب القطاع، لكن في 5 فبراير2024 اقتحم الاحتلال المكان؛ أجبرونا على الخروج عبر الحلابات، سمحوا لي بالمضي، لكنهم انتزعوا ابني مني.. أخذوا روحي معه، – بقيت هناك خوفًا عليه، لكن في النهاية، اعتقلوه- “.

تتابع بصوت مخنوق: “رأيته يُجرد من ملابسه مع مجموعة من الشباب، ثم ألقوا بهم في حفرة كبيرة تحاصرها الدبابات، بقيت لست ساعات واقفة بجوار الحلابات، أنظر إليه من بعيد، وأتوسل لهم أن يتركوه، فهو لم يزل شابًا في العشرين من عمره، لم يرتكب أي ذنب، ولا ينتمي لأي فصيل سياسي. لكنهم أجبروني على الرحيل، وإلا اعتقلوني معه”.

كانت الأشهر السبعة الأولى هي الأصعب، إذ تنقلت العائلة بين أماكن النزوح، من خيمة إلى أخرى، تائهة بين القلق والخوف، دون أن تعرف مصير ابنها؛ هل هو معتقل أم مقتول؟ حيٌّ أم ميت؟ حاولت والدته بكل السبل معرفة أي خبر عنه، تواصلت مع المؤسسات الحقوقية والقانونية، لكن جميع محاولاتها باءت بالفشل.

لكن مشيئة الله شاءت أن يلوح الأمل في أفق انتظارهم، فبعد سبعة أشهر، أُطلق سراح أسير كان يعرف م.م، ليحمل للعائلة خبرًا طال انتظاره: “إنه محتجز في سجن النقب – قسم 2”.

الزيارات الممنوعة والمعلومات المفقودة

عندما علمت العائلة بمكان احتجازه، أرسلت محامياً لزيارته، لكن إدارة السجون رفضت، كرروا المحاولة مرة أخرى، فجاءهم الرد: تم نقله إلى سجن آخر؛ ليكتشفوا لاحقاً أنه لا يزال في سجن النقب، لكن الاحتلال يمنع المحامين من زيارة الأسرى الغزيين.

تقول والدته: “الحمد لله، إنه  قيد الحياة، لكنني أموت قلقاً عليه، كل يوم أبكي وأفكر فيما يحدث له، خاصةً وأن زميله المحرر أخبرنا أنه يعيش في خيمة داخل السجن، في ظروف صعبة غير إنسانية، حيث يقدم لهم طعام سيء وماء غير نظيف، ويتعرضون للضرب والإهانة المستمرة، خاصة عندما تتعثر المفاوضات، يضاعفون تعذيبهم”.

تجديد الاعتقال دون محاكمة أو دليل

تُضيف أم م.م :”تواصلت مؤسسة “هيموكيد”، وأبلغتنا أن الاحتلال حكم عليه بالسجن 6 أشهر بتهمة الانتماء لـ”حركة حماس”، وهو ما نفاه ابنها م.م تماماً؛ رغم ذلك، وبعد انقضاء مدة الحكم، تم تجديد اعتقاله لستة أشهر أخرى، دون أي محاكمة عادلة أو أدلة واضحة”.

تتابع الأم المكلومة: ” رغم كل هذا الظلم والقلق، لا زلنا متمسكين بالأمل؛ وفقًا لمؤسسة هيموكيد، فإن ابني قد أكمل مدة حكمه بالكامل، بل وتجاوزها؛ مر عام وأسبوعان على ذلك، ونحن نأمل أن يتم الإفراج عنه قريبًا، وأن يكون ضمن صفقة تبادل الأسرى المقبلة”.

قصة م.م هي مجرد واحدة من آلاف القصص التي تمثل معاناة آلاف الأسرى الذين اعتقلهم الاحتلال حرب الإبادة التى شنها على قطاع غزة؛ بعضهم أمضى شهورًا خلف القضبان قبل أن يُفرج عنه، بينما ما يزال آخرون يقبعون في غياهب المجهول، داخل سجون تفتقر لأبسط حقوق الإنسان واحتياجاته الأساسية.

واقع الاعتقالات التعسفية

التقينا بالمختص في شؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة، ليحدثنا عن واقع الاعتقالات التعسفية، حيث قال، إن  “الأسرى لم يسلموا من جرائم الحرب التي طالتهم، والتي تنوعت بشكل لا يُحصى، ما أدى إلى وفاة عشرات المعتقلين، وجعل حياة الأسرى جحيمًا لا يُطاق.

تحولت السجون الإسرائيلية إلى جحيم حقيقي، وبيئة من معسكرات التعذيب، كما وصفتها منظمة بتسيلم الإسرائيلية في تقرير لها، وهذا الوضع يشمل جميع الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، لكن الأبرز كان سجن ‘سيديه تيمان’ في صحراء النقب، حيث تحمّل معتقلو غزة النصيب الأكبر من هذه المعاناة”.

يستذكر فروانة تجربته الشخصية مع الاعتقال، حيث تعرض للاعتقال من قبل الاحتلال 4 مرات، وقضى سنوات في السجون، استمع خلالها إلى العديد من الشهادات لآخرين مروا بتجربة الاعتقال، وكتب العديد من الدراسات والمقالات التي وثقت واقع السجون الإسرائيلية في إطار عمله واختصاصه؛ لكنه يؤكد أنه لم يمر عليه مرحلة مثل هذه، فالأحداث التي كانت تُعتبر نادرة أو استثنائية في الماضي أصبحت اليوم سلوكًا يوميًا ودائمًا، وتحولت إلى ظاهرة تتسع باستمرار، لتصبح المرحلة الأخطر تاريخيًا.

 

تعتيم إسرائيلي حول مصير الأسرى

يضيف فروانة قائلاً، إن ” لسان حال من اعتُقلوا خلال الحرب يقول؛ “من لم يُعتقل بعد 7 أكتوبر كأنه لم يُعتقل أبدًا’؛ هذه الظروف المأساوية أسفرت عن استشهاد ما لا يقل عن 58 أسيرًا داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الحرب، من مختلف المناطق.
هذا العدد من الشهداء في السجون يعد الأعلى تاريخيًا، حيث تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء هم من تم الإعلان عن استشهادهم ومعرفة أسمائهم وهوياتهم، بينما يقدر أن هناك عشرات آخرين من معتقلي غزة الذين استشهدوا، والذين تم الإعلان عن وفاتهم عبر وسائل الإعلام العبرية والدولية دون الكشف عن أسمائهم وهوياتهم”.

وحول وجود إحصائية دقيقة لأعداد الأسرى من غزة، يخبرنا فروانة قائلاً، “لا توجد معلومات رسمية أو معطيات إحصائية دقيقة من الجانب الإسرائيلي حول عدد الذين تم اعتقالهم من غزة خلال الحرب، ولكن هناك تقديرات تشير إلى أن العدد يصل إلى حوالي 10,000 معتقل، وقد تم الإفراج عن آلاف منهم؛ ولا يُعرف بالضبط عدد الذين ما زالوا في سجون الاحتلال، خاصة في ظل التعتيم الإسرائيلي ومنع منظمة الصليب الأحمر من زيارتهم، كما ترفض سلطات الاحتلال تسليم قائمة بأسمائهم وأعدادهم وبيانات وافية عنهم وأماكن احتجازهم، ما يثير الكثير من القلق حول مصيرهم”.

التعذيب الجماعي

يُتابع فروانة قائلاً، “الاحتلال لم يقتصر على إخفاء المعلومات عن عائلات الأسرى فقط، بل أيضًا عن المؤسسات الحقوقية، ويرفض السماح للصليب الأحمر بزيارتهم أو الالتقاء بهم، ولا يسلم قوائم بأسمائهم، ما يكشف عن نوايا إسرائيلية سيئة ويثير العديد من علامات الاستفهام”.

ويستكمل، ” هذا الوضع يزيد من قلق الأهالي، ويُعدّ شكلًا من أشكال التعذيب الجماعي، و لا يُعرف إذا كانوا أحياء أم أموات، وقد أصبحوا جميعًا ضحايا للاختفاء القسري، وهم في عداد المفقودين، باستثناء ما يُكشف عنهم من خلال المعتقلين الذين يُسمح لهم بلقاء المحامين أو من خلال المفرج عنهم”.

 

جريمة الإختفاء القسري

يُؤكد فروانة أن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، حظرت الاعتقال السرّي، وجرّمت الاختفاء القسري، وأكدت على أن الاختفاء القسري عندما يمارس على نطاق واسع أو بطريقة منهجية، فإنه يشكل جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي.

اشتدت ظروف احتجاز المعتقلين بشكل قاسٍ منذ 7 أكتوبر، وتدهورت المعاملة أكثر، حيث أصبح التعذيب الجسدي والنفسي أكثر فظاعة، وتكررت الاعتداءات الجنسية وحالات الاغتصاب عدة مرات، بالإضافة إلى الضرب المبرح والتنكيل والتجويع والتعطيش، واستخدام المعتقلين دروعًا بشرية، وغيرها من الانتهاكات.
شهادات المعتقلين حول هذه الانتهاكات، التي حصلت عليها هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونشرتها عبر وسائل الإعلام، كانت صادمة ومروعة، كما أفاد عبد الناصر فروانة.

جهود حقوقية ومطالبات دولية

وحول الجهود الحقوقية والدولية للمطالبة بكشف مصير المعتقلين، يقول فروانة: “هناك جهود مبذولة من قبل طواقم هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ونادي الأسير، ومؤسسات حقوقية أخرى لرصد ومتابعة الأوضاع داخل السجون، وكذلك لحصر أعداد وأسماء معتقلي غزة خلال الحرب، من جهة أخرى تعمل هيئة شؤون الأسرى بالتعاون مع الجهات المختصة، وخاصة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، للحصول على أي معلومات حول هذا الموضوع”.

ويختتم فروانة حديثه بمطالبة مؤسسات المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والقانونية، والتحرك العاجل والفعّال لتوفير الحماية للأسرى والمعتقلين وفقًا للقانون الدولي، والكشف عن مصير معتقلي غزة خلال الحرب، سواء الأحياء منهم أو الأموات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى