رغم حداثة سنّه.. (إلياس) وحده سند عائلته

رغم حداثة سنّه.. (إلياس) وحده سند عائلته

غزة- نغم كراجة:

“إحنا النازحين محدش سامع صوتنا، عايشين على أطراف الحياة!”

بلهجةٍ يائسة، بدأ الفتى إلياس الأشقر (16 عامًا) سرد حكاية القهر التي يعانيها منذ أُجبر هو وعائلته على النزوح القسري من بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024م، ليجد نفسه في مواجهةٍ مع الفقر وضجيج الخيام، بعدما أُخرجوا بما عليهم من ملابس، دون فراش وأغطية، تحت وابل الرصاص والقذائف، كانت النجاة بالأرواح معجزة.

عائلة إلياس المكوّنة من سبعة أفراد، كانوا يعيشون في بيتهم بمنطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، قبل أن تجبرهم آلة الحرب الإسرائيلية التي اندلعت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، على النزوح صوب منزلٍ متضررٍ لأحد أقاربهم في بيت لاهيا، ثم النزوح مجددًا في أكتوبر/تشرين أول 2024م، إلى مبنى حكومي وسط مدينة غزة، داخل غرفة تتقاسمها أربعون روحًا أنهكتها الغربة القسرية.

“ما حدش بيتخيل كيف الواحد يعيش مع ناس ما بيعرفهم، المكان ضيق، مفيش خصوصية، ولا حتى راحة نفسية، وكل ما أتذكر بيتنا اللي تدمر في الإجتياح الأول للمنطقة بيأس وبصفن (أطيل النظر) في أهلي، وبسأل حالي كيف رح نعيش بعد الحرب”، قالها إلياس وهو ينظر إلى شقيقه الأصغر أوس (12 عامًا) وكأنه يعتذر له عن هذا الواقع.

في ظل هذا الوضع، لجأ إلياس لاتخاذ خطوةٍ لمساعدة أسرته، فتعلّم الخياطة البدائية بأدواتٍ بسيطة: مخرز وخيطان، دون الحاجة لرأس مالٍ كبير.

أمام ملعب اليرموك المكتظ بخيام النازحين وسط مدينة غزة، يجلس إلياس على حجر باطون وإلى جواره شقيقه أوس، يفرشان قطعة قماش صغيرة، ويبدآن خياطة الأحذية، مستخدمين المهارات التي علّمتهم إياها الحياة القاسية.

“الشمس بتحرقنا، وإيدي بتوجعني، بس الشغل أهم من التعب، عشان ما نحتاج حدا”، يروي إلياس بابتسامةٍ خجولةٍ تُخفي ألمًا عميقًا، يعمل الفتيان في ظروفٍ صعبة، بينما اكتسبت بشرتهم لونًا داكنًا بسبب عملهم لشهورٍ تحت أشعة الشمس الحارقة، ورغم ذلك يواصلان العمل بصمت؛ ليجنّبوا والدهم المصاب نتيجة القصف على بيت لاهيا، ذلّ السؤال ومرارة الاستدانة.

أوس الذي يفترض أن يكون على مقاعد الدراسة، يشارك شقيقه العمل رغم صغر سنه، “أنا بس بساعد إلياس عشان ما يضل تعبان لحاله، بشوفه ظهره محني طول النهار وما بيهون عليّ”، يقول أوس بصوتٍ خافت، وهو يمسح عرقًا تصبب على جبينه بينما تبحث يداه الصغيرتان عن ماسورةٍ خيطٍ سوداء تكمل العمل.

العيش وسط هذا الواقع القاسي جعل إلياس وأوس يكبران مبكرًا، أوس الذي اعتاد حمل حقيبته المدرسية والذهاب لصفه، أصبح الآن يحمل على كتفيه الصغيرين عبء العمل لتوفير قوت يوم أسرته.

ويعدّ التعليم حقًا أساسيًا بموجب المادة (28) من اتفاقية حقوق الطفل، أصبح حلمًا بعيد المنال للشقيقين اللذين يكافحان من أجل قوت يومهما بدلًا من تحصيل العلم، جراء استمرار الحرب وغياب المنظومة التعليمية على مدار أكثر من عام.

يتقاضى إلياس أجرًا زهيدًا مقابل عمله حيث يخيط الحذاء الواحد مقابل (2 أو 3 شيكلًا) ما يجعله مقصدًا للنازحين الذين يعانون شحّ الأحذية وغلاء أسعارها، يجني حوالي 25 شيكلًا يوميًا، وأحيانًا أقل لكن هذا الدخل القليل يكفي لأن يحفظ كرامتهم، “المردود مش كتير، بس المهم ما نمدش إيدنا لحدا”، يروي إلياس.

كانت فكرة تعلم خياطة الأحذية خطرت بباله بسبب حاجة النازحين للأحذية وكون أدوات المهنة خفيفة لا تتطلب رأس مال، هكذا قرر أن يتحمل العبء عن والده الخمسيني المصاب بشظايا صاروخ استطلاع خلال قصف بيت لاهيا في الإجتياح الحالي لشمال غزة بينما كان يقف مع الجيران يتشاورون في قرار النزوح.

إصابة الوالد منعته من العمل، وانعدام فرص العمل حتى في الأعمال الحرة الحالية التي تحتاج لرأس مال لا يملكونه، “ما بدي أبوي يتعب أو يتهان في شغل ما يليق فيه”، قال إلياس، موضحًا أن قراره بالعمل جاء ليحمي والده المصاب ويخفف من ألم أسرته.

أما والدته أم إلياس، فتواجه حربًا من نوع آخر، تُثقلها مخاوفها اليومية على ولديها اللذين يخرجان منذ الصباح للعمل وسط الاكتظاظ المحيط بمكان خياطتهما، يزيد إلياس: “أمي طول الوقت بالها مشغول علينا، وما بتهدى إلا لما نرجع”، فقد كانت تتمنى أن تبقيهم بجانبها، لكن الحاجة دفعتها لقبول خروجهم بحثًا عن رزقٍ بسيط يسدّ احتياجات الأسرة.

“مين بيحسبنا؟ إحنا مجرد أرقام عالنشرة، ولا حدا بيسأل إحنا وين بننام أو شو بناكل”، يردف إلياس بنبرة ملؤها الحزن، بينما كانت يداه تواصلان خياطة أحد الأحذية المتآكلة وكأنهما تحاولان لملمة جراح لم تلتئم.

ومع ذلك، وسط هذا المشهد القاتم، تلمع عيون الفتيين ببصيص من الأمل “مش رح نيأس، ورح نضل نحاول نعيش ونساعد أهلنا مهما كان الوضع”، اختتم إلياس بابتسامة شجاعة، وكأنه يرفض انتصار القهر عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى