طوابير من البكاء أمام أبواب المخابز
طوابير من البكاء أمام أبواب المخابز
دير البلح- هديل الغرباوي:
غزت تعابير الحيرة والقلق ملامح وجه الشابة صابرين الشوا (34 عامًا) وهي تنتظر دورها في طابور الحصول على الخبز أمام باب أحد المخابز، في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
تشيح الشابة بوجهها غاضبة خشية العودة لأطفالها الخمسة الذين يتضورون جوعًا دون خبز، كما حدث مرارًا، تقول: “عدنا نعاني مرّ المجاعة التي ضربت المحافظة الوسطى في ديسمبر/كانون الأول 2023م، حينها تجاوز سعر كيلو الدقيق 25 دولارًا، وها هي الأزمة ذاتها تعود من جديد”.
وبالعودة للقصة من البداية، فإن الاحتلال الإسرائيلي شنّ حربًا على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وأجبر سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه، في مخالفةٍ لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري للمدنيين، كما تسبب بانفجار أزمة خبزٍ بسبب سيطرته على معابر قطاع غزة، في مخالفةٍ أخرى للاتفاقية التي تحظر استخدام التجويع كأداة حرب.
حدث ذلك مع صابرين في يومٍ باردٍ من أيام نوفمبر/ تشرين الثاني 2024م، فقد تحجرت الدموع في عينيها وهي ما زالت واقفة وسط طابورٍ شديد الازدحام أمام المخبز بعدما انتصف النهار رغم خروجها منذ ساعات الفجر، على أمل الحصول على ربطة خبز لا تزيد عن 24 رغيفًا كي تعود ظافرة لخيمتها وصغارها.
تقول بعدما مسحت قطرات من الدمع: “أرغمتني سوء الأوضاع وجوع صغاري على البحث يوميًا عن قوتهم، أخرج في الرابعة فجرًا، لجلب ربطة خبز بسعر ثلاثة شواقل (أقل من دولار)، بينما يصطف الباعة على باب المخبز لبيعها بمبلغ يتعدّى 35 شيكلًا دون رأفة بحال الناس”.
أزمة الدقيق انعكست على المخابز الكبيرة والصغيرة التي أغلقت أبوابها في وجوه الجموع التي تتضور جوعًا، حيث كان يعمل في دير البلح مخبزان فقط لا يكفيان لسد حاجة مئات آلاف النازحين، بينما يعمل في النصيرات مخبزان أيضًا، وهو ما اضطر الكثير من النساء للانخراط في طوابير طويلة أمام المخابز بحثًا عن ربطة خبز لعائلاتهن.
تكمل صابرين: “يبكي صغاري بشكل جنوني، يشتكون الجوع، أتألم لعدم قدرتي على فعل شيءٍ لإشباعهم، لم يبق شيء لم أطهوه لهم، الأرز، المعكرونة، والعدس، هذه هي الأشياء المتوفرة لكنها لا تسد جوعهم”.
تضطر النساء للوقوف على أبواب المخابز منذ ساعات الفجر لمدة قد تصل لعشر ساعات، جراء الاكتظاظ الشديد، وهو ما تسبب بوفاة سيدتين اختناقًا يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024م، أمام أحد مخابز دير البلح.
نفوذ شملخ (60 عامًا)، سيدة أخرى تقف على باب أحد المخابز بمدينة النصيرات، تقول:”أرغمتني الظروف على الانتظار على باب المخبز وتحمّل التدافع والسباب، فقدت النساء أنوثتهن قسرًا في هذه الطوابير، لست أدري؛ هل الحرب والجوع غيرت طباع الناس”.
تواصل: “لدي سبعة أبناء وزوجي يعاني إعاقة، نعيش في منزل أحد أقاربنا نحو 30 فردًا، أنا فقط من أصطف في طوابير الخبز، وأتحمّل المشقّة والتعب لجلب ربطة خبز، ثم أقوم بإعداد أي وجبة تكفي لكل هذا العدد، لكن أزمة الدقيق حاليًا تنذر بمجاعة”.
تستند إلى جدار قرب بوابة المخبز وهي تكمل: “ليس لدي دقيق في البيت، استعرت كيلو واحد من أخي وسأعيده له حال توفّر الدقيق، لكنه لم يتوفر”.
يمنح القانون الدولي الإنساني الحصانة والحماية للنساء والأطفال، من خلال حماية عامة بصفتهم جزء من الأشخاص المدنيين الذين يجب تجنيبهم أضرار الحرب، وحماية خاصةً تتناسب والسمات الخاصة التي تميزهم عن غيرهم من المدنيين.
منذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2024م، يعاني وسط وجنوب قطاع غزة من أزمة خبز، مع توفّر بسيط للدقيق الفاسد منتهي الصلاحية والمليء بالسوس والديدان، ورغم انتهاء صلاحيته لكن الفلسطينيون أجبروا على شرائه بأثمان مرتفعة، إذ بلغ سعر الكيس الواحد (50 كيلو) 1000 شيكل (نحو 3000 $)، ورغم معاناة الناس الطويلة أمام بوابات المخابز، إلا أنها نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2024م، بفعل عدم وجود الدقيق، وما زالت مغلقة حتى كتابة التقرير أواخر ديسمبر 2024م.
عن سبب الأزمة، يوضح المحلل الاقتصادي محمد أبو جياب، إن العديد من المشاكل أدت لتفاقم مشكلة الدقيق جنوب قطاع غزة، أهمها تراجع إدخال الكميات اللازمة من قبل المنظمات الدولية، والتضييق الإسرائيلي على عمليات الإدخال، والتهديدات الأمنية في عمليات النقل وازدياد حالات السطو والسرقة التي تتعرض لها شاحنات المساعدات، ما أدى لانتشار المجاعة، واضطرار الكثير من المواطنين لتناول الدقيق الفاسد.
وأكد أبو جياب أن معالجة المشكلة تتطلب جهودًا دولية للضغط على الجانب الإسرائيلي لفتح المعابر وإدخال المواد الأساسية وعلى رأسها الدقيق، ولو أرادت المنظمات الدولية حلّ المشكلة جذريًا، فالأفضل أن يتم إدخال حبوب القمح إلى المطاحن الموجودة بقطاع غزة وهي خمسة، لضمان التخزين الآمن والأطول أمدًا، لإتاحة المجال للطحن وفقًا للاحتياجات، بالتالي الحفاظ على سلامة الطحين، كما تضمن هذه الآلية ألا تتم عملية السرقة.